مستقبلنا مع هؤلاء القتلة

2024.06.10 | 06:11 دمشق

معلولا
+A
حجم الخط
-A

يكاد يتفق جميع الباحثين النفسيين، أن فعل القتل والتعذيب الذي يمارسه الجاني يصيبه بجملة اعتلالات، غالباً ما تكون عصية على الإصلاح، وأن القاتل يسكنه شعور بالغربة والاضطراب، والخوف من افتضاح أمره، أو من انتقام الضحية، فيستمر في الإسراف في جريمته، والعمل على إبادتها جسديا أو نفسيا كيما يتعذر عليها فعل الانتقام.

يرى الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون في كتابه "منبعا الأخلاق والدين" أن القاتل بقتله فردا من البشرية، يحدث قطيعة بينه وبين المجتمع الإنساني بمعناه الواسع، وبالتالي فإن التقدير الذي يقدمه أفراد المجتمع له ليس حقيقياً، ولا يمسه أو يعنيه شخصياً، كونه يقدم إلى فرد آخر سوي، لم تشوهه عملية القتل، وبالتالي فإنه يبقى غريبا متوحدا، مضطربا مسكونا بالخوف ومهجوساً بقلق الارتياب في أن تقوم ضحيته أو من يمثلها بالانتقام، ومن هنا تأتي أهمية عملية الاعتراف المسيحي ودورها لإعادة الصلة بهذا المجتمع عبر الكاهن الذي يتقبل الاعتراف ويمنح الغفران، ويعيد إليه بعضا من الطمأنينة ومن إنسانيته المشوهة.

من هنا تأتي أهمية عملية الاعتراف في سياق المصالحة الاجتماعية، حيث يعتبر اعتراف مرتكبي الجرائم الإنسانية، أمرًا بالغ الأهمية في البلدان التي عانت من الحروب الأهلية، لأنها تسهم في منع تكرار هذا العنف في المستقبل، كما تعزز سبل التعافي الاجتماعي وتمهد للمساءلة والعدالة، التي تعد شرطاً أساسيا لتحقيق السلم الاجتماعي، وتسهم في بناء الحقيقة التي ستكون جزءا من التاريخ المنصف لرواية ما حصل.

كثيراً ما تساءلنا وما زلنا نتساءل، كيف سنعيش مع أولئك الذين شوهتهم الحرب، وتغمست أيديهم بالقتل والتعذيب وباتوا من محترفيه عبر سنوات طويلة، إلى أن أصبح القتل والتعذيب اليومي ديدنهم وسمتهم الاعتيادية، التي تصل حد الإدمان، تحضرني دائماً صورة وأحاديث الجلادين الذين عذبونا في سجن تدمر، عند عودتهم من إجازاتهم، يتحدثون لبعضهم بشكل هيستيري، عن الاضطراب الكبير الذي يعيشونه، بين حياتهم اليومية كجلادين وقتلة، وبين حياتهم التي ينبغي أن تكون طبيعية بين أهلهم ومحيطهم الاجتماعي.

كثيراً ما تساءلنا وما زلنا نتساءل، كيف سنعيش مع أولئك الذين شوهتهم الحرب، وتغمست أيديهم بالقتل والتعذيب وباتوا من محترفيه عبر سنوات طويلة، إلى أن أصبح القتل والتعذيب اليومي ديدنهم وسمتهم الاعتيادية، التي تصل حد الإدمان

تكاد تتطابق هذه الصورة المعقدة مع حياة آلاف الجنود الإسرائيليين الذين يمارسون القتل اليومي والمتكرر تجاه نساء وأطفال عزل، ويصبح القتل لمجرد القتل أو التلذذ فيه طبيعة عميقة في نفوس هؤلاء المشوهين، وليس هذا حكراً على الجنود الإسرائيليين وحسب، بل هو حالة من التوحش تعدتهم لتشمل قسطاً واسعا من المجتمع الإسرائيلي، فقد ذكر استطلاع للرأي العام الإسرائيلي أن 70% من المجتمع الإسرائيلي ينحدر اليوم بميل شديد نحو أسوأ درجات التطرف الإيدلوجي، فهو يؤيد بحماسة شديدة أقسى ممارسات التطرف والإبادة الجماعية بحق جميع الفلسطينيين دون تمييز، لأنه برأيهم وحده كفيل بإنهاء الصراع واستقرار دولة الاحتلال.   

من هنا يمكننا إدراك هذا التأييد الأوروبي المستميت في الحفاظ على دولة إسرائيل، لقطع السبيل على هجرة عكسية يعود فيها اليهود الإسرائيليون إلى المدن الأوروبية، لأنهم سيشكلون أزمة اجتماعية للمجتمع الأوروبي المنظم، فالإسرائيلي كائن مشوه يصعب ترويضه أو علاجه، كونه ألف الغطرسة والاستبداد، واعتاد الاعتداء المتكرر على المدنيين لسنوات طويلة.

وإذا قارنا بين التكوين الإجرامي المشوه لدى جلادي الأنظمة الديكتاتورية، وفي مقدمتها النموذج السوري في ظل حكم الأسد الأب، والذي انتقل بكامله مع تطوير أرعن إلى نظام الأسد الابن، وبين تكوين الجنود الإسرائيليين وقطاع واسع من مجتمعهم، سنجد أنهم يشتركون في صفات جوهرية عديدة، ربما يكون من أهمها تبلد الحس الإنساني، وغياب الاستجابات العاطفية أو الشعورية، وكأنهم واقعون تحت تأثير مواد مخدرة، كذلك غياب الحس الإنساني تجاه الضحايا وتجاه نظرائهم الأحياء، فنجدهم بكلتا الحالتين يتعاملون مع جثث القتلى ومع الضحايا في أثناء عمليات القتل والتعذيب والاعتقال، بشكل يؤكد أنهم يتعاملون مع كائنات تنحط عن قدر الإنسان والحيوان، كذلك الإحساس المخادع بالقوة والعظمة والاستمتاع بهما وهذا الإحساس يدفع لتجسيد الغطرسة بفعل السيطرة والتمادي في ممارسة العنف، وينسحب هذان الأمران على حياتهم العائلية والاجتماعية فيقعون نهب الاضطرابات، وتصبح حياتهم كارثة لهم ولمحيطهم، وكثير منهم ينتهون بجرائم قتل في بيئتهم التي تحتضنهم، لأسباب غاية في التفاهة، ويتحولون إلى أشخاص ساديين ومدمني مخدرات، ومثيري اضطرابات أينما كانوا، وبسعيهم إلى تحقيق شيء من السلام الداخلي المفقود، أو رغبة بتصالح شكلي على الأقل يعمدون إلى إنتاج منظومة أخلاقية تبريرية يشيطنون فيها ضحاياهم ويسوغون ما اقترفوه بذريعة الحفاظ على الأمن أو حماية الوطن أو أنهم يتبعون الأوامر وحسب، وسيعانون من اضطراب ما بعد الصدمة فتعاودهم الذكريات السوداء وتسكن أحلامهم أشباح ضحاياهم، ويصبح القلق والكآبة سمتهم الأوضح، ويفقدون القدرة السوية على التواصل الاجتماعي، فيميلون إلى العزلة وعدم الرغبة في التواصل مع الوسط المحيط، وممارسة العنف المنزلي، وهذا ما لمسناه في كثير من ضباط وعناصر الأمن السوريين عند تقاعدهم وانتهاء أدوارهم وفقدهم لامتيازاتهم، ويكفي أن نتذكر حجم الاضطرابات والاعتلالات النفسية، التي عاشها ويعيشها إلى اليوم الجنود الأميركان الذين شاركوا في حرب فيتنام وفي حرب أفغانستان والعراق، وامتلاء المصحات والعيادات النفسية والسجون بالآلاف منهم، لدرجة أنهم باتوا يشكلون أزمة اقتصادية واجتماعية بآن واحد.