مستقبلنا في ظل تسارع الذكاء الصناعي

2023.07.14 | 05:45 دمشق

مستقبلنا في ظل تسارع الذكاء الصناعي
+A
حجم الخط
-A

مع بدايات القرن العشرين، وفي الوقت الذي كانت فيه دول العالم الثالث منشغلة بحروب التحرر والتخلص من الاستعمار، كان الغرب يعيش تسارعاً محموماً، وغير مسبوق في الاكتشافات التي تعزز سيطرته وتجعله متقدماً، في صراعات بينية تمخضت عنها الحرب الكونية، التي قتلت ما يقارب ثمانين مليون ضحية أو أكثر، وكانت القنبلة النووية التي تم تجريبها في هيروشيما وناغازاكي، وما تلاها من قنابل أعتى حصيلة تلك الحقبة المشؤومة، في هذا الوقت كانت هناك أصوات لعلماء وفلاسفة غربيين، يحذرون من هذا التسارع غير المنضبط للاختراعات والاكتشافات، التي قد يشكل العديد منها خطراً على مستقبل البشرية عامة، وكان منهم العالم المجري جون فون نويمان "1903-1957" : الذي كان رائدًا في مجال الحوسبة، وقد كانت لديه مخاوف كبيرة حول ما سماه "الانفجار الذكائي"، وهو تفصيل للفكرة التي تقول إن تحسين الذكاء الصناعي قد يؤدي في النهاية إلى ظهور ذكاء صناعي يتجاوز الذكاء البشري بشكل كبير.

اليوم نحن أمام قضايا كبرى وفي مقدمتها "الهندسة الوراثية والذكاء الصناعي" قضايا لم تتبد بعد نتائجها التي يتوقع أن تكون كارثية، لا سيما أن المتحكمين بمقاليد هذه التقنيات، بعيدون كل البعد عن الاهتمام بالكلفة البشرية لهذا التطور

كذلك العالم الأميركي نوربرت فينر "1894-1964" الذي كان رائدًا في مجال السيبرنتيك، وقد أثار مخاوف كبيرة حول الأتمتة وتأثيرها على العمل البشري، في كتابه "The Human Use of Human Beings" الذي نشر في عام "1950" ، والعالم الأميركي بيل جوي 1954 أحد مؤسسي شركة "صن مايكرو يستمز" وكبير العلماء فيها، وقد أفصح عن مخاوفه من التطور التكنولوجي غير المنظم، وقد عرضها في مقاله الذي نشره في مجلة وايرد عام 2000 "لماذا لا يحتاجنا المستقبل" ، يصرح فيها بأن "أقوى تقنياتنا في القرن الحادي والعشرين - الروبوتات، والهندسة الوراثية، والتكنولوجيا النانوية - تهدد بجعل البشر من الأنواع المهددة بالانقراض" وشدد على الحاجة إلى الحذر والتحكم في ضبط هذا التطور لضمان استخدامه بطرق آمنة تخدم الوجود الإنساني، وغيرهم كثير، لكن أحدا لم يلق لهم بالا، واليوم نحن أمام قضايا كبرى وفي مقدمتها "الهندسة الوراثية والذكاء الصناعي" قضايا لم تتبد بعد نتائجها التي يتوقع أن تكون كارثية، لا سيما أن المتحكمين بمقاليد هذه التقنيات، بعيدون كل البعد عن الاهتمام بالكلفة البشرية لهذا التطور، وقد عاش الكوكب زهاء عامين يحاصره فيروس كوفيد متناهي الصغر، ويحصد منه ملايين الضحايا، وما نزال نجهل على وجه الدقة من أي مخبر حيوي وبدعم أي الحكومات تم إنتاجه أو الانفلات منه.

منذ أشهر ليست بالبعيدة، بدأت منصات التواصل الاجتماعي، تذخر بذلك الكم الهائل من مفرزات الذكاء الصناعي، التي يصعب حصرها، فهي تمطرنا كل يوم بمنتج جديد، يمكن لمستخدمه توفير الوقت ودخول عوالم لم يكن يعرف عنها شيئاً البتة، فبالإضافة إلى تمكن برامج الذكاء الصناعي من تقديم الكثير من المشورات الفنية والثقافية والتقنية، وكتابتها لأعقد البرمجيات والدراسات الموسعة، والإجابة عن أسئلة صعبة، وإنتاجه في دقائق معدودة، ما لا يستطيع إنتاجه شخص متخصص إلا بشق الأنفس أو بكثير من الجهد.

أصبح بإمكان شخص غير متخصص، إنتاج فيديو أو فيلم وكتابة رسائل وتلحين نصوص شعرية، وصناعة برمجيات رياضية وبرامج تنحيف، وكثير من الأشياء التي يصعب حصرها، كما يصعب التحقق من صوابها ودقتها.

لكن هل سنتمكن قريبا من توظيف هذا الذكاء الصناعي لخدمة برامج سياسية تخدم السلام، ورسم خطط استراتيجية أو تكتيكية، لمعضلات يقف العالم عاجزا أمامها، كالمذبحة السورية أو كالحرب الأوكرانية مثلاً؟ هل سيسعفنا هذا لبناء تصور عملي، لتفكيك منظومات الترسانات النووية التي تشكل إرهابا كونيا مسلطا على أعناق الأمم، هل سيقدم لنا الذكاء الصناعي تحليلا موضوعيا وحلا عمليا لمشكلة النمو السكاني؟ وهل يكشف لنا حقيقة الزعم القائل إن موارد الأرض لن تكفي من يعيشون عليها في العقود القادمة.

منذ عقود عديدة كنا نلمح في أفلام الجاسوسية، كيف يحمل العميل كاميرا في زر قميصه أو في طرف قلمه، بينما كنا نحمل كاميرا بجسم معدني قد يتجاوز وزنها 500 غرام، مثل كاميرا زينيت الروسية الشهيرة بدقتها ووزنها، واليوم بات طفل صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره، يحمل كاميرا لا يتجاوز وزنها الخمس غرامات مدمجة في هاتفه النقال، وبدقة تتفوق على تلك الكاميرات السالفة الذكر بعشرات أو مئات المرات، وبالقياس عليه، هل يمكننا تخيل التقنيات السرية ومستويات الذكاء الصناعي الخاصة، التي تمتلكها الأجهزة المهيمنة على هذا العالم، مقارنة بالذكاء الصناعي المتاح بين أيدي فتياننا اليوم؟ أسئلة يصعب الجواب عليها بالرغم من إمكانية تخيلها أو استنتاجها نظرياً.

أسئلة كثيرة تولد كل يوم، حول ما يمكن لهذه التقنيات العجيبة أن تفعله، لو سيطرت عليها قوى ظلامية ومافيات عالمية، كيف سيكون حال أولادنا اليافعين الذين لم يتبلور وعيهم الاجتماعي بعد، وهم يتفوقون تقنياً على جيل الآباء بأشواط قياسية، بفعل هذه الأدوات التي باتت اليوم بمتناول أيديهم وبمنتهى السهولة.

الأزمات التي صنعتها الأتمتة في عقود سابقة، بتسريح آلاف العمال، ستكون أشبه بعبث الأطفال، قياساً لما ستحدثه هذه الطفرة الحديثة من إنهاء كلي، لأعمال كانت حتى اليوم حكراً على الإنسان

وقريباً قبل أن تتبلور الرؤى، ويكشف المستقبل عن كوارث تتجاوز حدود التخيل، يمكننا القول إن ما كان يسمى بالخصوصية بالأمس القريب، أصبح عملياً على شفير الانهيار التام، وإن الأزمات التي صنعتها الأتمتة في عقود سابقة، بتسريح آلاف العمال، ستكون أشبه بعبث الأطفال، قياساً لما ستحدثه هذه الطفرة الحديثة من إنهاء كلي، لأعمال كانت حتى اليوم حكراً على الإنسان، وإن الروبوت الذكي الذي شهدناه في العديد من الأفلام سابقاً، يتخطى قدرات صانعه، قد بدأ يقرع أبوابنا بقبضته السيليكونية، وإن المخاوف من سيطرة من يملك تلك التقانات الحديثة على مجريات حياتنا اليومية، وتوظيفها بشكل مدمر بات أمراً من الممكنات.

كثيرة هي المؤسسات والمنظمات وحتى الحكومات التي بدأت بقرع ناقوس الخطر، لكن جميع تلك الأصوات ستذهب أدراج الرياح، فالإغراء بالسيطرة والتفوق لن يجد ما يوقفه، في عالم مترع بالفساد أصلاً.