مدرسة الغابة.. تجربة وذكريات

2020.05.22 | 00:00 دمشق

jdyd_alghabt.jpg
+A
حجم الخط
-A

 الجزء الثاني

عملت في (مدرسة الغابة waldschule) عاماً كاملاً ما بين 15/8/2016 و14/8/2017، وكان عام امتلاء مزدحماً بالخبرة، ومحتشداً بالمتعة! عاماً لمستُ فيه لمس اليد كيف يصمّم الألمان ممارستهم التعليمية، وكيف يحسِّنونها. هذه الممارسة المضفورة من ثلاثة مفاهيم كبرى هي: (Die Erziehung أي: التنشئة)، و(Die Bildung أي: التكوين العلمي)، و(Die Pädagogik أي: النظرية التربوية)، وكيف يستخدمون الموارد التعليمية في إطار المفاهيم التربوية، ولن أبالغ إذا قلت بأني كنت أرى طيف إميل دوركهايم وزملائه التربويين في كل الأنشطة التي كنّا نقوم بها في هذه المدرسة، ونحن نقرّب فجوة الكفاءة ما بين البالغين والصغار، ونحاول أن نطوّر الشخص إلى شخصية بتوجيه الأطفال في التعامل مع البيئة المادية والثقافية والانخراط فيها، وبتمرينهم للتعبير عما يجول في خواطرهم إزاء المواضيع المحددة المعروضة أمامهم بلغة واضحة وطريقة واثقة.

كان مديرنا أكسل دومن يبتدئ في كل مرة نستقبل فيها أطفال الروضات في (مدرسة الغابة) بالتعريف بنفسه بذكر اسمه فقط، ثم بالتعريف بي سارداً ملخص سيرتي وعملي السابقين، ويسأل الأطفال: هل تعرفون سوريا؟ ثم يحدثهم عنها، وعن حلب، وعن الحرب الدائرة هناك. لقد غدا ذلك التعريف ديدناً له، وكأنه الفاتحة الواجبة في بداية كل لقاء، وقد قرأت فيه حرص هذا المربي على تنمية روح التعاطف لدى هؤلاء الأطفال مع العالم، ومع البشر، وعلى نشر عبير المودة مع الغريب، ومع الآخر، وبعد ذلك يبدأ الحديث عن الحيوانات والأشجار والثمار والأعشاب، حديثاً قائماً على المناقشة والحوار والتحفيز والتوفيز، ولعلنا قد قرأنا مراراً وتكراراً عن تفوق الطفل الغربي في حصيلته اللغوية على الطفل العربي، والحديث عن هذا التفوق ليس دعاية، ولكنه حقيقة أكيدة، يسرُّ لها المرء وهو يقف تلقاء الطفل الألماني، ويُساء ويكمد ويشجى وهو يقف تلقاء الطفل العربي! وبإمكاني القول من خلال تجربتي المحدودة أن التعليم الألماني يهتم بالتعبير عن المعلومة أكثر من المعلومة ذاتها، وأنّه يضع مسألة (الإنشاء الواضح) والوافي والمتمكن في أولى أولياته، فيدرّب الطفل عليه بصبر وأناة ورويّة.

عادةً ما يكون عمر طلاب الروضات التي نزورها ضمن أنشطة المدرسة لنقدم لهم شروحاً عن الحيوانات المحنطة التي نجلبها معنا ما بين الأربع إلى الخمس سنوات، لكن في إحدى الزيارات تفاجأنا بعد أن رتبنا الحيوانات على الطاولة بدخول صف من الأطفال لا يتجاوز عمر معظمهم السنتين، وحين رأيتهم قلت في نفسي: أعانك الله يا أكسل على هذا الدرس الذي ستعطيه.

جلست أرقب سير الدرس، وكيف سيقوم زميلي ومديري بإعطائه، وكان تقييمي له جيداً جداً، فقد استطاع شد انتباههم، وضبطهم، ومناقشتهم، ومحاورتهم، وتعزيز أجوبتهم، وإدخال السرور إلى قلوبهم، ورسم البسمات على وجوههم، وبعد أن انتهينا وركبنا السيارة نظر إليّ وقال: كان هذا اليوم متعباً جداً، لأنني لم أكن أعلم أن عمر الطلاب سيكون سنتين.

وكان لا يمرُّ يوم حين نخرج إلى الغابة مع صغار الطلبة إلا ويكون في الصف طفل أو أكثر عربي أو سوري. وغالباً ما يبادر أساتذة هؤلاء الأطفال إلى إخباري أن ذلك الطالب أو تلك الطالبة من سوريا! وينادونهم لكي يسلموا عليّ. وكم كنت أحزن حين أرى أنّ معظم الأطفال الصغار السوريين من الكرد لا يتكلمون العربية بتاتاً! وأضطر عندئذٍ إلى أن أتحدث معهم بالألمانية! وحقيقةً لم أجد سبباً يسوّغ تفريط هؤلاء الأهل في تعليم أولادهم اللغة العربية إضافة إلى الكردية، ولا ذريعةً تبيح لهم حرمانهم من امتياز المعرفة الذي لا يدانيه امتياز! ولا سيما أن هذا التعليم سيتم عفو الخاطر، وبلا كلفة ولا تكلّف، فاللغة قوة ووجود وامتياز وفرص وآفاق ووفاق.

يفتح العمل في (مدرسة الغابة) باب المقارنات التي لا تنتهي، فخلال سنة كاملة من تجوّلي في معظم المدن والبلدات التابعة لـ Märkischer kreis، لفت انتباهي مزارع الخيول والأحصنة المنتشرة بكثافة في التلال والوهاد التي نمرّ بها!! وكنت كلما رأيت الأحصنة تذكرت الإمام الشيخ محمد عبده، وكلامه في تفسير سورة (العاديات) التي يرد في مطلعها عدة أوصاف للخيل {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً}، فيغتنم الإمام ذكر الخيل ليطلق التنهيدة التالية: "أفليس من أعجب العجب أن ترى أمماً هذا كتابها (يعني القرآن)، قد أهملت شأن الخيل والفروسية إلى أن صار يُشار إلى راكبها بينهم بالهزء والسخرية، وأخذت كرام الخيل تهجر بلادهم إلى بلاد أخرى! أليس من أغرب ما يستغرب أن أناساً يزعمون أنّ هذا الكتاب كتابهم يكون طلاب العلوم الدينية منهم أشد الناس رهبةً من ركوب الخيل، وأبعدهم عن صفات الرجولية، حتى وقع من أحد أساتذتهم المشار إليهم بالبنان عندما كنت أكلّمه في منافع بعض العلوم وفوائدها في علم الدين أن قال: إذا كان كل ما يفيد في الدين نعلمه لطلبة العلم كان علينا إذن أن نعلمهم ركوب الخيل! يقول ذلك ليفحمني، وتقوم له الحجة عليَّ، كأنَّ تعلُّم ركوب الخيل مما لا يليق، ولا ينبغي لطلبة العلم، وهم يقولون: إن العلماء ورثة الأنبياء، فهل هذه الأعمال وهذه العقائد تتفق مع الإيمان بهذا الكتاب!؟ أنصف ثم احكم".

أمّا المقارنات الأكثر طرفة فتلك التي كانت تفرض نفسها عليّ ما بين الطلاب الألمان، والطلاب السوريين والأتراك، فالطالب السوري أو التركي في الأعم الأغلب ينضح سخريةً واستهزاءً، وحيثما التفت وجد أهكومة، وكيفما التفت وقع على أفكوهة، وإن لم يجدها ينتزعها من الأوكار، أو يخترعها من الوجار، ولا يردعه رادع عن أن يطنز بمعلمه أو معلمته، في حين أنّ الطالب الألماني يربع وهو في غاية الرصانة والرزانة، آخذاً الأمور مآخذ الجد والاحترام. ومما يسترعي الانتباه أيضاً الانضباط الذاتي للطلاب الألمان في أثناء المسير، ولطفهم الشديد في لعبهم مع بعضهم بعضاً، رغم وجود كل الوسائل المعينة والميسّرة لأسباب الغلاظة والازعاج من عصي وأغصان يمكن أن يضرب التلميذ بها زميله، ومن تضاريس متعرجة وتلال ووهاد يمكن أن تيسّر تعثّر الزميل برفسة أو نكزة.

في إحدى جولاتنا كان في المجموعة التي رافقتها ولدان سوريان، من مدينتين مختلفتين. أما الأول فمنذ أن وقعت عيناه على أول غصن مقطوع امتشقه سيفاً يلوح به، كأنه عنترة بن شداد في حلبة مصارعة رومانية! قضيت الرحلة كلها وأنا أنبّهه حتى لا يصيب أحد زملائه في وجهه أو في عينيه، وكان في كل منعرج يسرع فيتخطّانا، ثم ينتصب أمامنا، ويسد الطريق بغصن كبير يحمله وينادي علينا: قفوا!!! حاجز!!! أخرجوا هواياتكم!

أما التلميذ الآخر فكان أصعب من الأول. ظل يمشي بجانبي، ويسائلني:

ــ منذ متى تعمل هنا؟

ــ منذ ثلاثة شهور؟

ــ كم هو راتبك؟

ــ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

ــ يعني يدفعون لك كثيراً أم قليلاً؟

ــ لن أقول لك!

ـ كم ولداً عندك؟

ـ ثلاثة أولاد!

ــ يعني الراتب الذي يعطونك إياه يكفيك؟

ــ لن أقول لك.

وهكذا قضيت تلك الرحلة.

...

في (المدرسة الألمانية) عموماً، و(مدرسة الغابة) خصوصاً يأخذ مصطلح Die Erziehung الدور الأكبر من التوجّه والاهتمام، فالثقافة لا تُنقل وراثياً، بل عن طريق التنشئة، والتنشئة ليست حدثاً طبيعياً، بل فعل عقلاني يتمّ وفقاً لأهداف واعية، ويتبع للإرادة التي تنتج عن مجال رؤية أو فكر معيّنين، وقد اختار الألمان للدلالة على علم أصول التربية والتدريس هذا المصطلح فقالوا: (Erziehungswissenschaft) وهذه التسمية لا نظير لها في اللغة الإنكليزية، وقد تؤدي في بعض الأحيان إلى صعوبات في فهم علم أصول التدريس باللغة الألمانية، على الرغم من أن قضايا التعليم غالباً ما تكون متشابهة سواءً في إنكلترا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو أستراليا أو غيرها! ولا بدّ من التنويه في هذا المقام إلى أنّ العديد من أبنائنا السوريين في ألمانيا أُتيح لهم الالتحاق بالتأهيل التعليمي (Ausbildung) المختص بالتنشئة والتعليم (Sozialpädagogisch/Erzieher)، وهم يحصّلون اليوم خبرات رائعة في أصول التربية والتعليم، وقد يتسنّى لهم في يوم قادم أن ينقلوا هذه الخبرات إلى سوريا إذا تعافت من الوخم الذي يلفّها، والسقم الذي يخنقها.