ما قاله كبار شعراء سوريا في حافظ الأسد

2020.11.26 | 23:26 دمشق

yshsys.jpg
+A
حجم الخط
-A

عُرِف الشاعر عمر أبو ريشة (1910 – 1990) بموقفه الحازم وغير الممالئ للحكّام والمسؤولين وأرباب المناصب، إلّا أن اللافت في حزمه وصرامة موقفه هو استهدافه ونقده لسلوك الحاكم أو المسؤول وليس لشخصه، وهذا ليس غريباً على شاعر حاز على درجة عالية من الثقافة والوعي ورهافة الحس، وقدرةٍ بالغة على التمييز ما بين الخطأ الذي قلّ أن ينجو منه أحد، سواء أكان مسؤولاً أو حاكماً أو سوى ذلك، وبين نزعة الإجرام والانحطاط الإنساني التي تنزع عن صاحبها صفة الإنسانية. ومن قبيل ذلك مثلاً : كثرةُ انتقاد أبي ريشة للمرحوم سعد الله الجابري (1891 – 1948) رئيس مجلس النواب السوري عام 1945، كما كان قد تولّى وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء في تلك الحقبة، إلّا أن الانتقاد اللاذع الذي تعرّض له الرجل نتيجة سلوكه السياسي في بعض المواقف المحدودة، ظلّ مقترناً بتلك المواقف، ولم يغادر تخومها، أعني لم ينتقص نقد أبي ريشة من شخصية الجابري – الإنسان المخلص والغيور على قضايا وطنه وشعبه، وها هو أحد كبار منتقديه، وأعني عمر أبا ريشة ذاته، يبادر إلى رثائه رثاءً حارّاً، في قصيدة تُعدّ من روائع شعره، من أبياتها:

سعدُ، يا سعدُ إنّــــــــه لنداءٌ             من حنينٍ، فهل عرفتَ المنادي؟

ربما غاب عن خيالك طيفي              بعد طول الجــــفا وطول البعاد

أنا يا سعد ما طويتُ على اللـــــــــــــــؤم جناحي ولا جرحــتُ اعتقادي

شَهِد الله مــــــا انتقدتُكَ إلّا                طمعاً أن أراكَ فـــــوقَ انتقادي

وكفى المرء رفعةً أنْ يُعادى             في ميادين مجـــــــــده ويعادي

إن معالم شخصية حافظ الأسد لم تكن لدى أبي ريشة، سوى (مسخٍ مزوَّدٍ بالضلال) وستبقى صورة أشداقه الملوّثة بدماء فرائسه من أجساد السوريين ماثلةً للأجيال مدى الحياة

ولئن كان أبو ريشة قد أعاد الاعتبار إلى صديقه، فكشف عن معالم النبل والإخلاص لدى الجابري في قصيدة خالدة تتوارثها الأجيال، فإن معالم شخصية حافظ الأسد لم تكن لدى أبي ريشة، سوى (مسخٍ مزوَّدٍ بالضلال) وستبقى صورة أشداقه الملوّثة بدماء فرائسه من أجساد السوريين ماثلةً للأجيال مدى الحياة، وها هو حافظ الأسد، كما يبدو في قصيدة أبي ريشة (عودة مغترب)، تجسيداً لموقف الشاعر ممّا لحق بمدينة حماة من إجرام أسدي في شباط 1982 :

 

نزع الخسيسَ من السلاح أمــامه            واختـــــــــــــار منه أخسّهُ وتقلّدا

ترك الحـصون إلى العدا متعثّراً              بفراره، وأتــى الحمى مستأسدا

وأزاحـــــــــــــت الأيام عنه نقابه           فأطلّ مسخــــــــاً بالضلال مزوَّدا

سكّيــــــــــــــنةٌ في شدقه، ولعابُه            يجــري على ذكر الفريسة مُزبِدا

ما كـــان هولاكـــــو ولا أشباهه            بأضلّ أفئــــــــــــدةً وأقسى أكْبدا

هذي حماة عروسة الوادي على             كبْر الحـــــداد تجيل طرفاً أرمدا

هذا صلاح الدين يخفي جرحــه            عنها ويسأل: كيف جرحُ أبي الفدا

ما عفّ عن قذف المعابد باللظى            فتناثرت رمماً وأجـــــــّتْ موقدا

لم تكن الوضاعة الأخلاقية لحاكم (سوريا الأسد) طارئة الحدوث، أو سلوكاً مُستَحدثاً لدى صاحبها، بل هي سلوك موازٍ لشخصه منذ ان بدأ يمسك بمفاصل الحكم في سوريا، فضلوعه في سقوط الجولان المحتل قد أفصح بوقتٍ مبكّر عن إرهاصات سلوكه اللاحق، هذا ما نلحظه في قصيدة ( من وحي الهزيمة) للشاعر بدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد 1904 – 1981) التي كتبها في أعقاب حرب 1967 :

جَبُنَ القادةُ الكبـــــــارُ وفرّوا                 وبكى للفرار جـــــــــيشٌ جسورُ

لم يعـــــــــــانِ الوغى لواءٌ ولا عانى فريـــــــــــــــــــــــــقٌ أهوالها ومشيرُ

هُزمَ الحاكمون والشعبُ في الأصفـــــــــــــــــــــــاد، فالحكمُ وحده المكسورُ

هُزمَ الحاكمون لم يحـــــــــــــــــــــــــزن الشعبُ عليهم ولا انتخى الجمهور

يستجيرون، والكريــــــــــــــــــــــــــم لدى الغمرة يلقى الردى ولا يستجيرُ

إلّا أن هذه القصيدة كادت أن تودي بحياة صاحبها، وكما جاء في (موسوعة سورية السياسية) أن بدوي الجبل – بعد نشره لقصيدته – وُجد مرميّاً في أحد أحياء دمشق، بعد اختطافه لمدة ثلاثة أيام، محطَّم اليد اليمنى، مكدوم الرأس، يشارف على الاحتضار، لولا إسعافه السريع إلى المشفى، وتؤكّد المصادر في حينه أن حافظ الأسد، وقد كان وزيراً للدفاع آنذاك، هو من أمر بعقابه، بل إن السخط الأسدي ظل يطاول عائلة بدوي الجبل، إلى أوائل التسعينيات، ولعلّ الإعلامي الشهير وصاحب البرنامج الإذاعي الصباحي (مرحباً يا صباح) في فترة السبعينيات، الأستاذ منير الأحمد (نجل بدوي الجبل) قد قضى تحت التعذيب، في فرع المنطقة لدى المخابرات العسكرية، بتهمة التخابر أو التواصل مع معارضين لنظام الأسد.

هذه القصيدة كادت أن تودي بحياة صاحبها.. بدوي الجبل – بعد نشره لقصيدته – وُجد مرميّاً في أحد أحياء دمشق، بعد اختطافه لمدة ثلاثة أيام، محطَّم اليد اليمنى، مكدوم الرأس، يشارف على الاحتضار

في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ومع صعود الخمينية الإيرانية، شهدت المنطقة العربية تنامياً للتحالف الأسدي الإيراني، وكان من ثمار هذا التحالف إنشاء كيانات وميليشيات محلّية في لبنان، تعود مرجعيتها إلى إيران، ويقوم النظام في سوريا بإيوائها وفتح معسكرات لها للتدريب والتأهيل، ومن أبرز تلك الكيانات الميليشياوية التي اعتمد عليها نظام الأسد لضرب خصومه والكيد لهم هما: حزب الله في لبنان، وحزب الدعوة في العراق، وبالتنسيق ما بين هاتين المنظمتين الإرهابيتين، ونظام دمشق، تم تفجير السفارة العراقية في بيروت يوم 15 كانون أول 1981 ، وكان من أبرز ضحايا تلك المجزرة، السيدة بلقيس الراوي، زوجة الشاعر نزار قباني (1923 – 1998)، الذي رثاها بقصيدة ملحمية، وقد جاء في تضاعيف القصيدة ما يشير بوضوح إلى ضلوع الأسد في تلك الجريمة، إذ يقول نزار:

(سأقول في التحقيق

إن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل

وأقول في التحقيق

إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول

وأقول

إن حكاية الإشعاع أسخفُ نكتةٍ قيلت

فنحن قبيلة بين القبائل)

وبطبيعة الحال، حاولت السلطات السورية آنذاك أن تحدّ من انتشار قصيدة بلقيس، وأذكر في حينها، أن مجلة المستقبل التي كان يرأس تحريرها المرحوم رياض الريس، كانت قد نشرت القصيدة على صفحاتها، فبادرت السلطات السورية إلى عدم السماح بدخول العدد الخاص الذي نُشرت فيه القصيدة إلى سوريا، كما أذكر في ذلك الحين، أن بعض أصحاب المكتبات في مدينة حلب، قاموا بتصوير القصيدة، ثم حوّلوها إلى كرّاسات صغيرة للبيع، نظراً للإقبال الكبير عليها من القراء، فما لبثت – على إثر ذلك – عناصر المخابرات أنْ بادرت بتفتيش العديد من المكتبات ومصادرة أي كرّاس يحتوي على قصيدة (بلقيس)، بل بات حيازة هذه القصيدة تهمة أمنية في حينها.

بمقابل مواقف هؤلاء الشعراء الثلاثة – نزار وأبو ريشة وبدوي الجبل – من دولة التوحّش الأسدي، هناك شعراء سوريون معاصرون، ومنهم من حاز على شهرة واسعة، أكّدوا انحيازهم إلى السلطة، وسعيهم الدائم لتبرير سلوكها والدفاع عنها، وقد أحدثت هذه التباينات في مواقف الشعراء – وبخاصة بعد انطلاقة الثورة السورية - جدلاً واسعاً في الأوساط الأدبية والثقافية، ولعل هذا ما يوجب الدعوة إلى قراءة جديدة للشعر السوري المعاصر.