ما دور أخلاقيات استقبال اللاجئين في استقالة الحكومة الهولندية؟

2023.07.09 | 06:16 دمشق

ما دور أخلاقيات استقبال اللاجئين في استقالة الحكومة الهولندية؟
+A
حجم الخط
-A

على الرغم من محاولة ترسيخ فكرة أن السياسة مصالح وليست جمعية خيرية، وأن من يبحث عن المنظومات الأخلاقية عليه ألا يبحث عنها في عالم السياسة، إلا أن كثيرا من المواقف التي تمر معنا اليوم قد يكون دافعها الرئيس في جانب كبير منه دافع أخلاقي، ولعل استقالة الحكومة الهولندية التي حدثت قبل يومين جزء من هذا المساحة الأخلاقية في السياسة.

بدأت الحكاية منذ نحو عام ونصف حيث مرحلة ما بعد كورونا وانسداد آفاق أي حل في سوريا وأزمة اقتصادية كبيرة جعلت سوريا في ذيل قائمة البلدان الأكثر فقراً، والمضايقات التي تعرض لها السوريون في تركيا والبلدان الأخرى مما جعل طريق اللجوء أحد طرق إكمال مسيرة الحياة، وبالتالي اضطُرَّ كثير من السوريين إلى التركيز على مسار أن يقوم أحد أفراد العائلة باللجوء، ثم يستقدم ذلك اللاجئ تحت إطار "لم الشمل" بقية عائلته (الأب والأم يستقدمون كل الأطفال تحت الثامنة عشرة) وإن كان اللاجئ طفلاً تحت الثامنة عشرة فإنه يستقدم كل أخواته وإخوته تحت الثامنة عشرة وأمه وأبيه، ويتبع ذلك تفاصيل عديدة من مثل إنْ كان أحد الوالدين متزوجاً من آخر ولديه أطفال كذلك يحق له أن يلمّ شملهم مع أمهم وأبيهم وإن كانت تلك الأم المطلقة أو الأب متزوجاً من رجل أو أمرأة أخرى وكان كل منهما متزوجاً من قبل كذلك يحق لأطفالهم وأمهم وأبيهم السابقين الحضور إلى هولندا، بحيث بلغ عدد "الملموم شملهم" العام الماضي أكثر من عشرة آلاف شخص غالبيتهم من السوريين وهو ما يشكل نحو ربع عدد المتقدمين بطلبات لجوء عام 2021.

الأحزاب المشكلة للائتلاف الحاكم، لا تريد أن يحسب عليها تاريخياً أنه في فترة حكمها نام الناس في الشوارع، وقد شهدنا أن عدداً كبيراً من البلديات رفضت التعاون مع الحكومة في هذا المجال

من جانب آخر؛ فإن ما يسمى ها هنا بـ "تسونامي اللجوء ما بعد كورونا" ونوم عدد من طالبي اللجوء في الشوارع والساحات وعدم كفاية أمكنة الاستقبال الخاصة بمقدمي طلبات اللجوء في هولندا جعل سؤال: إلى أين؟؟؟ يطرح من جديد، شعبياً وحزبياً وبلدياتياً، مما دفع الأحزاب المشكلة للحكومة إلى مناقشة جديدة لقانون من يحق لهم أن يلجؤوا إلى هولندا؟ هل هم ممن لديهم في بلدانهم حرب أو مشكلات بيئية أو كوارث طبيعية، أو المضطهدون سياسياً أو قومياً أو دينياً أو جندرياً أو جنسياً، وهل من الضروري -كما هو الآن- أن يكون من حق كل من يصل إلى هولندا الانتقال إلى مرحلة الجنسية؟ أم أنه يمكن أن يجلس فترة من الزمان ريثما تتحسن أوضاع بلده ويعود عبر إقامات مؤقتة؟

وفي الوقت نفسه فإن الأحزاب المشكلة للائتلاف الحاكم، لا تريد أن يحسب عليها تاريخياً أنه في فترة حكمها نام الناس في الشوارع، وقد شهدنا أن عدداً كبيراً من البلديات رفضت التعاون مع الحكومة في هذا المجال. ومن جانب آخر، فإن التيار اليميني وهو ليس بكثير الحضور في هولندا وجد اللجوء وتبعاته فرصة سانحة للضغط على الحكومة وأحزابها، لذلك فإن خشية تلك الأحزاب أن يترك عددٌ من مناصريها أحزابهم الحالية ويلتحقون بحزب "خيرت فيلدرز" الأكثر يمينية، دفعها لقذف كرة اللجوء إلى الأمام كتعطيل للقانون الأكثر تشدداً الذي كان من المنتظر إقراره، وتكون بذلك قد تركت الأمر معلقاً، خاصة وأن حزب كل من (الوحدة المسيحية) وال سي دي أ يعارضان بشدة سن قوانين تقلل من عدد اللاجئين أو تمنع لم الشمل، بل إن حزب الوحدة المسيحي وهو جزء من الائتلاف الحاكم قد غرد عبر "تويتر" أن الله أورثنا الأرض وهي حق للبشر جيمعاً! هذا تبسيط للمسألة فالأمر لا يتعلق بالجغرافيا فحسب بل في الخدمات التي ينتظرها اللاجئ وعائلته حيث تسابق إدارة الهجرة وإدارة الـ ""كوا" المسؤولة عن إطعام اللاجئين وإقامتهم قبل مرحلة الانتقال إلى البلدية الزمن؛ كي لا تحدث غصات جديدة!

بلغة الأرقام عدد من تم لم شملهم العام الماضي كانوا بمعدل 900 شهر شخصياً، الحزب الحاكم يريد الاكتفاء بـ 200 شخص شهرياً، حزب الوحدة المسيحي يرى أن الـتأخر في لم الشمل غير إنساني وسيعدم أسرة اللاجئ نتيجة غياب أحد مكوناتها فترة طويلة عن بقية العائلة، وسيؤدي إلى حدوث مشكلات نفسية عند من سينتظر عائلته.

عدد طلبات اللجوء المتوقعة عام 2023 بحدود 70 ألف طلب، والقدرة الاستيعابية نحو 30 أللف طلب، فكيف سيتم حل تلك المعضلة وهي تتراكم سنوياً؟

منظمة مساعدة اللاجئين في هولندا، رأت في الاستقالة عودة إلى الأخلاق الهولندية الأساسية، لأنه من غير المعقول في تاريخ هولندا أن يتم الضغط على الناس بهذه الطريقة؟ خاصة وأن الملك الهولندي قد اعتذر قبل أيام نيابة عن الشعب الهولندي وعن عائلته لدورهم في المشاركة في تجارة العبيد في قرون سابقة. ومنظمة الفلاحين والمزارعين رأت في الاستقالة هروباً من استحقاقات تتعلق بالمناخ ومشكلة النتروجين والبناء وزيادة الأسعار.

يرى كثير من المهتميبن في الشأن السياسي الهولندي أن القوانين الهولندية حين تم سنها فإنها تمثلت منظومة حقوق الإنسان العالمية، وبالتالي فإن التغيير التشريعي يأخذ وقتاً طويلاً جداً، كي لا يتم التنابذ عن تلك القيم، خاصة أن الهولنديين تشغلهم أفكار رئيسية في حياتهم من مثل: الرغبة بالكمال، والدخول بالتفاصيل، والتركيز على الإنتاج وعدم السرعة، ربما اعتماداً على الثقافة الكالفينية ذات الجذور المسيحية البروتستانية التي تشكل أحد أسس تكوين الدولة الهولدنية حيث تركز على العمل وقيم العائلة والمساواة.

الاستقالة كذلك تشير إلى مأزق من مآزق الديمقراطية والبيروقراطية والبطء في الحلول ومفهوم الدولة المركزية وعلاقة الحكومة بالبلديات، إذ يرفض عدد منها استقبال اللاجئين.

ومن جهة أخرى تشير تلك الاستقالة إلى مشكلة هوية في أوروبا هل تقوم على الانفتاح والتعدد والتنوع، أم على الانغلاق على الذات، وهل بقي ذلك ممكناً في عصر الاقتصاد الرقمي؟ في هولندا تركيز على الإنتاج والمشاركة والرعاية الاجتماعية أكثر من التركيز على الهوية أو مفهوم الوطنية.

الاتجاه اليميني في هولندا ينشغل بفكرة: كيف نجعل من هولندا بلداً منفراً للاجئين ولماذا علينا أن نستقبلهم؟ هل يكون ذلك عبر تعقيد الإجراءات وإبطائها، وتأخير لم الشمل وتقييده والتقليل من الموافقة على عدد طلبات اللجوء وتركز على فكرة من يستحق اللجوء وما هي المعايير لذلك تدعو لتفعيل خطة لجوء "زر الطوارئ"؟

أزمة اللجوء في هولندا ليست خاصة بها، بل جزء من أزمات أوروبا وأزمات الاقتصاد الرقمي ومفاهيم الهوية في عصر وسائل التواصل الاجتماعي ومفهوم الدولة الوطنية وحدود الرعاية الاجتماعية

استقالة الحكومة الهولندية ليست خلافاً سياسياً بين الأحزاب المشكلة للائتلاف الحكومي فحسب، بل في جانب كبير منها خلاف أخلاقي بين المشاركين فيها وأعضاء البرلمان حول آثار الحدود الأخلاقية في التشريعات والقوانين الهولندية، وأيهما أولى الحسابات التنظيمية التي تقوم على فكرة المتطلبات والقدرات أم الدوافع الأخلاقية التي ترى أنه في فترات الأزمات على العالم أن يتحمل بعضه بعضاً؟ ويتساءل عدد من المهتمين: كيف استطاعت الحكومة تجاوز كثير من التشريعات وكسرها حين تعلق الأمر في الوضع الأوكراني واللاجئين الأوكرانيين؟

وفي الأحوال كلها أزمة اللجوء في هولندا ليست خاصة بها، بل جزء من أزمات أوروبا وأزمات الاقتصاد الرقمي ومفاهيم الهوية في عصر وسائل التواصل الاجتماعي ومفهوم الدولة الوطنية وحدود الرعاية الاجتماعية.

الاستقالة في جانب منها رمي كرة اللجوء إلى الأمام والرغبة في البحث عن إجابات عميقة لأسئلة وجودية وتحديات أمام أصحاب القرار، ليست تهرباً من استحقاقات بقدر كونها فرصة لإبقاء الوضع على ما هو عليه وتأجيل اتخاذ قرارات لا تنسجم مع قناعات السياسيين أو احتراماً لتاريخ بلدانهم، ويقال هنا في الكواليس إن الإرادة الملكية المبطنة (مع أنه يملك ولا يحكم) على الرغم من تفهمها لفكرة ما هي حدود اللجوء إلا أنها لا تتفق مع فكرة أن تخرج هولندا من جلدها الأخلاقي الذي تحاول أن تتمسك به وهو يقوم في جوانب كبيرة منه على حقوق الإنسان، أي إنسان، في البحث عن بلد آمن له ولعائلته وقد لا يكون ذلك إلا باللجوء وتبعاته الكثيرة!