لو أن "هيرسي" في غزَّة

2023.12.14 | 07:47 دمشق

لو أن "هيرسي" في غزَّة
+A
حجم الخط
-A

حين نُشرت "هيروشيما" بعد عام من الكارثة، وهي المقالة الصحفية الأشهر في القرن العشرين، في صحيفة نيويوركر، وقرأها الأميركيون، كان الشعور الأولي لدى الرأي العام الأميركي، أن حكومتهم وعبر التعمية التي مارستها على الحقائق والوقائع، إنما جعلت الشعب الأميركي يبدو وكأنه شعب غبي وبلا أخلاق، عندما هلل قبل عام لرمي القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي في اليابان، مما دعا الأخيرة للاستسلام غير المشروط، ومعها انتهت الحرب العالمية الثانية.

يوم 31 آب/أغسطس 1946، أفردت نيويوركر للمقالة، المكتوبة بقرابة واحد وثلاثين ألف كلمة، عدداً كاملاً لم تنشر به شيئاً سواها، وكانت تلك سابقة لم يعرفها عالم الصحافة من قبل. من جهة أخرى اعتُبر المقال كفاتحة لما سيُدعى "الصحافة الجديدة، حيث استخدم الكاتب جون هيرسي السرد الروائي لتقديم تحقيق صحفي واقعي، بطريقة جذابة ومثيرة، على ما في مادته من مأساوية تقدم الكارثة بطريقة فريدة".

لم يتضمن مقال هيرسي أية رسائل أيديولوجية أو سياسية مباشرة، لكنه كان بكليّته وكأنه بيان إدانة لاستخدام الولايات المتحدة للسلاح النووي. كل ما فعله هيرسي أنه قابل وتابع يوميات ستة أشخاص عايشوا لحظة الانفجار في هيروشيما، ونقل ما حدث لهم، وما رأوه وعاينوه من موت ودمار وإصابات، وحرائق اجتاحت المدينة المنكوبة. عام 1999، بعد ست سنوات من وفاة هيرسي، صنّفت لجنة تابعة لقسم الصحافة في جامعة نيويورك "هيروشيما" كأفضل عمل للصحافة الأميركية في القرن العشرين.

لم يفعل الرجل سوى أنه صاغ بأسلوبه المميز ما سمعه من وقائع ومشاهدات، من أصحاب الحكاية. لم يذهب كثيراً إلى الإحصاءات إلا عندما كان ذلك ضروياً، لكنه بقي أميناً لعنف الحكاية

خلال ثلاثة أسابيع التقى جون هيرسي مع ستة ناجين من هيروشيما وهم: كاهن يسوعي ألماني، خياطة أرملة، طبيبان، امرأة عشرينية تعمل في أحد مصانع المدينة، وكاهن ياباني كاثوليكي. ونقل بأسلوبه ما رووه له عن لحظة التفجير وما تلاها. لينسف من خلال مادته كل البروباغندا التي حاولت الحكومة الأميركية ترويجها خلال عام كامل. وليقلب إلى حدٍّ كبير الرأي العام الأميركي والعالمي أيضاً، لجهة الموقف من استخدام السلاح النووي.

لم يفعل الرجل سوى أنه صاغ بأسلوبه المميز ما سمعه من وقائع ومشاهدات، من أصحاب الحكاية. لم يذهب كثيراً إلى الإحصاءات إلا عندما كان ذلك ضروياً، لكنه بقي أميناً لعنف الحكاية، وللمأساة التي حلّت بالمدينة المدمرة، وكأنه روائي استسلم لتتحكم به شخصيات روايته بدلاً من أن يحركها هو ويصنع مصيرها بنفسه.

حاول صناع القرار الأميركي بعد رمي القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي، الحديث عن الأمر وكأنه ما جلب السلام للعالم وأجبر اليابان على الاستسلام، علماً أن اليابان كانت قابلة للاستسلام بدونهما، لكن بشروط أقل إذلالاً. تحدثت الحكومة عنهما وكأنهما قنبلتان كغيرهما لكنهما أقوى تفجيراً، بما يقدمهما كسبق أميركي على صعيد التسلح بمواجهة الأعداء. ولم تسمح لأحد أن يتحدث عن الإبادة البشرية لعشرات الآلاف من المدنيين من الرجال والنساء والأطفال خلال لحظات.

كان الخلاص من العدو الياباني الذي هاجم ميناء بيرل هاربر، وقتل المئات من الأميركيين وأغرق السفن والمدمرات، هو الطاغي كتبرير لضرورة كسر الجيش الياباني المعتدي والخلاص من قدراته، ولم يكن من مكان للحديث عن الضحايا الأبرياء في المدينتين. فجاء جون هيرسي وأظهر الوجه الآخر لذاك الانتصار الأميركي، وروى لمواطنيه أن حياة أناس من لحم ودم قد دمرت، بصفتهم بشرا لهم حكايتهم التي تتناقض مع الرواية الرسمية الأميركية، التي شوهت صورة اليابانيين خلال الحرب، وكانت تتناولهم كمخلوقات أدنى من البشر، وذهب البعض لوصفهم بالقرود الصفر.

خلال عام 1985، زار جون هيرسي هيروشيما ثانيةً، ومن هناك كتب مادة بعنوان ذكرى ما حدث في هيروشيما جاء فيها "إن ما أبقى العالم آمناً من القنبلة النووية منذ عام 1945 حتى الآن لم يكن الردع، بمعنى الخوف من أسلحة معينة، بقدر ما كانت الذاكرة". وهو ما يؤسس للقول بأن الرواية الصحيحة لأحداث التاريخ هي ما تجعل الشعوب، وبدرجةٍ أقل الحكومات، تستفيد من دروس الماضي.

أعتقد أنكم ما زلتم تنتظرون مني أن أتحدث عن غزّة التي تم ذكرها في العنوان. الحقيقة أني لن أفعل، فعندما دونت عنوان مادتي كان كل ما يخطر ببالي، ماذ لو كان هناك هيرسي آخر في غزة، يروي القصة الحقيقية لما يجري في المدينة، على لسان أبنائها ممن يعايشون الموت والدمار في كل لحظة، بينما تتابع وسائل الإعلام العالمية ما يجري من زاويتها، لتقول أن ما يحدث هو محاولة كسر والخلاص من "حماس" ومن قاموا بالاعتداء على المدنيين يوم السابع من أكتوبر، كما في الحالة الأميركية عن الاعتداء على "بيرل هاربر"، كمبرر للإبادة.

على الأغلب أنه من المستحيل أن نخبر العالم عما يترسخ اليوم في أذهان الأطفال في غزّة وهم يعايشون كل دقيقة ما يجري حولهم، ما لم نسمع منهم حكايتهم بصبرٍ واهتمام

بالمقارنة مع ما كتبه هيرسي عن هيروشيما، سنجد أن لا قيمة حقيقية لكل الأرقام التي تتطاير على الشاشات وفي مواقع الإنترنت والتي غالباً ما يشكك العالم بها، ولا للصياغات الإخبارية المتعاطفة مع المدنيين في غزّة، ما لم تُرو الرواية بتفاصيلها على لسان الذين ما زالوا على قيد الحياة، من الناجين من المحرقة. عندما يأتي هيرسي ما، ويكتب أو يصور من غزة ستصل الحكاية الحقيقية للعالم.

على الأغلب أنه من المستحيل أن نخبر العالم عما يترسخ اليوم في أذهان الأطفال في غزّة وهم يعايشون كل دقيقة ما يجري حولهم، ما لم نسمع منهم حكايتهم بصبرٍ واهتمام. يختم هيرسي مقالته بنقل موضوع تعبير كتبه ابن بطلة قصته الأرملة ناكامورا وقدمه لمعلمه في المدرسة. بكلمات بسيطة ولكن تحفر في العمق صاغ توشي، وهو ابن عشر سنوات، ولخص قصته، وربما قصة مدينته من خلال سطور قليلة.

"في اليوم السابق للقنبلة، ذهبت للسباحة. في الصباح كنت آكل الفول السوداني. رأيت ضوءاً قوياً، وبعده وجدتني أطير إلى مكان نوم أختي الصغيرة. عندما تم إنقاذنا من تحت الأنقاض، لم أستطع الرؤية إلا لمسافة قليلة. بدأت أنا وأمي بحزم أمتعتنا. كان الجيران يتجولون محروقي الجلد وينزفون. طلبت مني هاتايا سان أن أهرب معها. قلت لها إنني أريد أن أنتظر أمي. ذهبنا إلى الحديقة، هناك جاءت زوبعة. في الليل احترق خزان غاز، ورأيت انعكاس الحريق في النهر. بقينا في الحديقة ليلة واحدة. في اليوم التالي ذهبت إلى جسر تايكو والتقيت بصديقتيَّ كيكوكي وموراكامي. كانتا تبحثان عن والدتيهما. لكن والدة كيكوكي أصيبت، ووالدة موراكامي ماتت للأسف".