icon
التغطية الحية

"لميعة عباس عمارة".. شاعرة العراق التي غنّى لها السيّاب "أنشودة المطر"

2021.06.20 | 14:22 دمشق

"لميعة  شاعرة العراق التي غنّى لها السيّاب "أنشودة المطر"
الشاعرة لميعة عباس عمارة (1929- 2021)
إسطنبول- أحمد طلب الناصر
+A
حجم الخط
-A

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،

أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ.

عيناكِ حين تَبسمانِ تورقُ الكروم.

وترقص الأضواء... كالأقمار في نهَرْ

يرجّه المجذاف وهناً ساعة السَّحَرْ

كأنما تنبض في غوريهما، النّجومْ..

وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ

كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء،

دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريفْ،

والموت، والميلاد، والظلام، والضياءْ؛

فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاءْ

ونشوةٌ وحشيّةٌ تعانق السماءْ

كنشوة الطفل إذا خاف من القمرْ!

كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ

وقطرة فقطرةً تذوب في المطر..

وكركر الأطفالُ في عرائش المكرومْ،

ودغدغت صمت العصافير على الشجرْ

أنشودةُ المطرْ.."

بهذه المقاطع صنع بدر شاكر السياب مطلع قصيدته الخالدة "أنشودة المطر". وعلى مدى أكثر من نصف قرن ونحن نُرجِع معانيها وشرح مفرداتها إلى "الحبيبة" التي يتغزّل بها السيّاب ويشبّه عينيها –الخضراوين الداكنتين ربما- بأشجار النخيل الساكنة قُبيل الصبح، والتي تبثّ الروح في أوراق الكروم وتُرقِص مياه شطّ العرب القريب من (جيكور) قرية السيّاب، كلما شَعَرَت بالسعادة.

قليلون الذين يعرفون أن الشاعرة العراقية "لميعة عباس عمارة"، التي رحلت عنّا منذ يومين، هي مصدر غزل السياب في ذلك النصّ الذي ما زال يدرّس كواحد من أقانيم شعر الحداثة، وكطفرة من طفرات الأدب العربي في التاريخ المعاصر منذ تاريخ نشر القصيدة على صفحات مجلة الآداب البيروتية العراقية عام 1954.

الرحيل..

رحلت لميعة أول أمس الجمعة في (الـ18 من حزيران) عن عمر ناهز الـ92 عاماً في الولايات المتحدة الأميركية التي عاشت فيها رحلة الاغتراب منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، ونعاها ابنها، زكي مبارك" على حسابه في فيس بوك فقال: "أنبئكم بوفاة والدتي الشاعرة لميعة عباس عمارة.. خسارة لكلّ من عرفها من العراق وكل الدول العربية والعالم الذين أحبّتهم وأحبُّوها. ستبقى ذكراها في وجدان كل من عرفها شخصيا، أو عبر أشعارها ودراساتها الكثيرة".

 

 

بدايات لميعة عمارة وتحولات الشعر

ولدت لميعة في بغداد عام 1929، ونشأت في أسرة ميسورة الحال حيث كان والدها (زهرون عباس) يعمل صائغاً للذهب والفضة، وأضيف إلى اسم العائلة لقب "عمارة" نسبة لمدينة العمارة العراقية التي يعود أصل العائلة إليها، وهي من أبناء الدين الصابئي المندائي.

 والشاعرة هي ابنة خال الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، أحد شعراء عصر التحوّل الحداثوي في العراق والعالم العربي إلى جوار بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وغيرهم.

 وسط ذلك المناخ المحتدم والمتمرد شعرياً بهدف الوصول إلى صورة جديدة للقصيدة العربية النمطية –الشعر العمودي- نشأت لميعة،

 وسط ذلك المناخ المحتدم والمتمرد شعرياً بهدف الوصول إلى صورة جديدة للقصيدة العربية النمطية –الشعر العمودي- نشأت لميعة، وتمكنت في عمر مبكّر من خلق قصائد إبداعية استثنائية في شعر التفعيلة. وربما لو وِلدت في عصر ولادة بدر أو نازك لانتزعت منهما ريادة قصيدة التفعيلة بلا أدنى شك، فقد أبدعت أولى قصائدها وهي بعمر الـ14 فقط، ويكبرها السياب بـ3 سنوات ونازك الملائكة بـ6.

ومنذ قصائدها الأولى، كانت ترسل كل ما تبدعه إلى صديق والدها، الشاعر اللبناني المهجري "إيليا أبي ماضي" أحد أبرز مؤسسي (الرابطة القلمية) إلى جانب جبران خليل جبران. وكان أبي ماضي يُدهش بموهبتها الشعرية ما جعله ينشر أول قصيدة لها في المجلة التي كان يرأس تحريرها "السمير" في بدايات عام 1944. وهو الذي قال فيها: "إن كان في العراق مثل هؤلاء الأطفال، فعلى أية نهضةٍ شعرية مُقبل العراق؟".

برزت مكانتها الشعرية في منتصف خمسينيات القرن الماضي، كواحد من الأصوات النسائية التي خلّدها المشهد الشعري العراقي، كنازك الملائكة وآمال الزهاوي. وعاصرت حقبة شعراء الحداثة الذين ذكرناهم، على اختلاف أساليبهم الفنية وتعارض توجّهاتهم الفكرية والأيديولوجية.

 وفي العقدين التاليين، شغلت لميعة منصب عضوية الهيئة الإدارية لــ "اتحاد الأدباء في بغداد" خلال الأعوام 1963- 1975 إلى جانب الشاعر محمد مهدي الجواهري وبلند الحيدري وأسماء معروفة أخرى. كما تولّتْ نائب الممثل الدائم للعراق في منظمة اليونسكو في باريس بين عامي 1973 و1975.

تركت الشاعرة وراءها ستة دواوين شعرية تضمّ تجاربها الأدبية المهمة، بالرغم من التجاهل الملحوظ لمؤلفاتها من قبل النقاد، وهي: الزاوية الخالية 1960، عودة الربيع 1963، أغاني عشتار 1969، يُسمّونه الحب 1972، لو أنبأني العرّاف 1980، والبعد الأخير 1988.

 

لميعة عباس عمارة
لميعة عباس عمارة

 

اتسم شعر لميعة الذي تناول المرأة والحب والغزل، بجسارة ورومانسية عالية، سواء في قصائدها باللهجة العراقية العامية أو الفصيحة، وبلغة محكمة التراكيب والمفردات، إضافة إلى رقّة وعذوبة في أسلوب الإلقاء.

يتجسّد ذلك في ما قاله الكاتب الفلسطيني سمير حاج عنها: "لميعة شيّدت قصيدة الأنوثة وأضاءتها، في خريطة الشعر العربيّ الحديث، واحتفت بثنائية الجسد والروح وأصبحت الأنا الشاعرة النرجسيّة الجريئة، تثور وتبوح بالمسكوت عنه، متماهية مع كاليبسو الجميلة التي اشتهت أوديسيوس جهراً: (أحتاج إليك حبيبي الليلة / فالليلة روحي فرس وحشية/ أوراق البردى ـ أضلاعي ـ فـتِّـتـها / أطلِق هذي اللغة المـنسـيّـة/ جسدي لا يحتمل الوجد / ولا أنوي أن أصبح رابعة العدوية)".

أما الكاتب العراقي عقيل عباس، فيقول: "إن الشاعرة لميعة عباس عمارة عملت انقلاباً هائلاً في الشعر، لأنها ركزت على مفهوم الحرية وكانت صوتا للمرأة". ويضيف: "عند المقارنة بين لميعة ونازك الملائكة، تعد الأخيرة هي الرائدة في مجال الشعر الحر، لكن في ما يتعلق بقضايا المرأة لميعة هي الأهم والأعمق شعريا".

ومن بين القصائد الشهيرة للميعة "وحيدة على شواطئ الأطلسي" التي جاء فيها:

"من غرفتي أحكي عن الحب أنا

وعن هوى لم ألمسِ

كفيلسوف يصف الخمر التي لم يحتسِ".

ومن بين قصائدها المعروفة أيضاً، قصيدة "أنا عراقية"، التي كتبتها لميعة عندما حاول أحد الشعراء مغازلتها في مهرجان شعري عراقي. لترد عليه في قصيدة يقول مطلعها:

"أتدخنين؟  لا.

أتشربين؟ لا.

أترقصين؟ لا.

ما أنتِ جمع من الـ لا؟

فقالت أنا عراقية.."

مع بدر شاكر السياب

وبخصوص العلاقة التي جمعتها بالسياب (1926- 1964)، بدأ التعارف بين الشاعرين خلال دراستها في دار المعلمين عام 1955 حيث التقت بالسياب هناك بالإضافة إلى نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبقريبها عبد الرزاق عبد الواحد. وخلال فترة الدراسة نشأت تلك العلاقة برائد شعر الحداثة والقصيدة الحرة.

ويُستدل على أن ثمة علاقة عاطفية جمعت بين الطرفين، من خلال حوار أجراه موقع "جدلية" مع الراحلة ونشر بتاريخ الـ17 من تشرين الأول 2015، حيث تقول لميعة إن قصيدتها المعنونة بـ "شهرزاد" والتي كتبتها في أثناء دراستها في السنة الثانية بكلية دار المعلمين، كانت مقدمة لبدر:

"ستبقى شفاهي ظِماءْ

ويبقى بعينيَّ هذا النداء

ولن يبرح الصدرَ هذا الحنين

ولن يُخرس اليأسُ كلَّ الرجاء"

لعل من بين الأمور التي غابت عن ذهن كثير من النقاد والقراء تتمثّل في إعادة قراءة دواوين السياب ولميعة لاكتشاف تفاصيل الحوار السرّي الذي كان يدور بينهما

وقالت إن القصيدة "كانت هـدية لبدر شاكر السياب، كتبتها له وهو أجاب عن كل مقطع. كنت أكتب بيت شعر وهو يجيبني بقصيدة كاملة. كان بيننا حوار شعري".

 

 

وآخر ما أهدته للسياب كانت قصيدة بعنوان "لعنة التميّز"، في بداية التسعينيات، أي بعد أكثر من ربع قرن على رحيله. قالت فيها:
"يوم أحببتك أغمضت عيوني
لم تكن تعرف ديني
فعرفنا وافترقنا دمعتين
عاشقا مُتَّ ولم تلمس الأربعين"

ولعل من بين الأمور التي غابت عن ذهن كثير من النقاد والقراء تتمثّل في إعادة قراءة دواوين السياب ولميعة لاكتشاف تفاصيل الحوار السرّي الذي كان يدور بينهما، والذي بقي حاضراً في هذا المقطع أو ذاك البيت أو تلك العبارة.

لميعة الناقدة الجريئة

تميزت آراء لميعة النقدية بالجرأة والحدّة تجاه شعراء جيلها من العراقيين، فهي ترى البياتي مقلدًا لبدر شاكر السياب، وقالت في ذلك:

"أنا أميل أن تكون الريادة (في شعر التفعيلة)  لبدر، فبدر كتب الكثير وطور الكثير، أما البياتي فجاء بعدهم، وكان مع بدر دائماً يتبعه ويقلده. كان يحضر كل حلقات بدر ويسمع ثم يذهب ويكتب ثلاث وأربع قصائد".

أما عن الجواهري فرغم إشادتها بأخلاقه وفكره فقد رأت فيه شاعرًا "لا يُحفظ شعره!":

"الشارع العربي يعرف الجواهري ولكن لا يعرف شعره ولا يحفظه وربما لا يستذوقه. حتى نزار قباني وهو شاعر كبير قال أنا لا أفهم شعر الجواهري. الجواهري كان صعباً، والسياب كان أسهل.. عاش مدة قصيرة لكنه ملأ مكانه وكان علامة من علامات القرن العشرين".

وعن نزار قباني قالت الراحلة:

"نزار مثلًا لغته بسيطة وصلت للناس، ودخل كل البيوت العربية. كتب شعراً ولم ينظمه نظماً. لم يجدد في الشعر شكلاً ولكنه جدد في المضمون والمعاني".

 

لميعة- تلفزيون سوريا.jpg
الشاعرة لميعة عباس مع الشاعر نزار قباني (جدلية)