لماذا لا يجيد الإسلاميون التعاطف الإنساني؟

2019.10.03 | 23:28 دمشق

_106137924_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

 

يحدثنا راشد الغنوشي وهو من أبرز الإسلاميين الحركيين في وقتنا الراهن والذي سُجن في عهد بورقيبة في فترتين: الأولى ما بين 1981 1984، والثانية ما بين 1987 1988، أنّ البرقيات والرسائل كانت تتواتر إلى النظام الحاكم من كل أنحاء العالم محتجةً ومستنكرة أن تضم السجون التونسية سجناء سياسيين ومعتقلي رأي، بغضّ النظر عن انتماءاتهم وتياراتهم وتوجهاتهم، ولاحظ الشيخ راشد في تلك الآونة أن هذه الرسائل والاحتجاجات والمطالبات والضغوط المطالبة بالإفراج عنه كانت تأتي من مؤسسات حقوقية وإنسانية ومن كتّاب ومفكرين وشخصيات وأناس معظمهم بل كلهم غربيون، ممن ينشدون العدالة والرحمة ورفع نير الاضطهاد عن الأحرار والشرفاء من ذوي الضمير الشريف والرأي الحر، ولاحظ أيضاً متأسفاً متألماً أنّه لم يكن من بين تلك الأصوات النبيلة صوت إسلامي أو عربي، ولا من تلك الشخصيات شخصية إسلامية أو عربية!

هذه الملاحظة تحيلنا إلى عنوان المقال وإلى تنويعات عليه مماثلة ومقاربة: لماذا لا نجيد التعاطف مع البشر الآخرين المضطهدين أو المنكوبين بالجائحات البشرية أو الطبيعية؟ ولماذا نصاب بالعي فلا نتكلم، وإذا نطقنا فبلكنة وحصر ننبس؟!

لا نتحدث ههنا عن أتباع الاتجاه الإسلامي العدمي المتطرف الذي لا يرى في العالم سوى ساحة معركة وقتال وشوكة وغلبة تلجئ الناس كل الناس للإذعان مغلوبين صاغرين، وإنما عن التيار الواسع العريض المعتدل الذي يرى نفسه مؤهلاً لحمل مشعل الحضارة العالمية، ويسعى لذلك بكل أوهامه وأمانيه، متوسلاً مقولات السياسة والاقتصاد والاجتماع والفلسفة والأدب والبرمجة اللغوية العصبية في خطابه الذي يطفح بالتفاخر

نتحدث عن عالمية الإسلام، ونحن لم نرتقِ لنكون محليين! ونبشّر بكونية قيمنا، والقيم التي نمارسها لا تستجيب لمطالب زقاق في حارة!

والمباهاة والمضاهاة، ويصرّ على أنّ العالم اليوم مجرد أرض عطشى متشققة، وأنّه الوابل الصيّب الطيب، والطلُّ الندي التقي، ولا يخطر على باله أنّه حين يمارس التقوى فإنما يمارسها، في كثير من الأحيان، بشكل معكوس منكوس، على اعتبار ما عرفها به أحد السلف تعريفاً موفقاً فقال: "التقوى: ألّا يجدك الله حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك"، ولكننا لا يطيب لنا المهرب إلا في أعزّ مطلب، فنختفي في غفلة، ونتوارى في تجاهل، ونحتجب في تعال.

نتحدث عن عالمية الإسلام، ونحن لم نرتقِ لنكون محليين! ونبشّر بكونية قيمنا، والقيم التي نمارسها لا تستجيب لمطالب زقاق في حارة!

هل نذكر الأحداث العالمية الجسام من انتفاضات إنسانية مصيرية ضد الديكتاتوريات التي حدثت في القرن العشرين، إذ لم نجد لهم ردة فعل مناسِبة ولا غير مناسِبة، سواء من المؤسسات الإسلامية الرسمية كالأزهر وسواه، والتي قد نجد لها مسوغاً من العذر باعتبارها عبداً مأموراً لا يجرؤ على تجاوز السلسلة المرتبط بها وإلا فإنه يخنق نفسه بنفسه، أو من الحركات الإسلامية وقادتها التي لا نجد لها أوهى مسوّغ في تجاهلها

هل نجد برقيات ورسائل لشخصيات أو أحزاب إسلامية يمكن أن نحيل إليها طالبت نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا

وغفلتها عن تضحيات المناضلين، وإعراضها عن دعم حقوق المكافحين، وهي التي عاشت معهم ضنك الديكتاتورية الملحف، وشظف الطغيان المنهك.

هل نجد بياناً إسلامياً واحداً يتحدث، على سبيل المثال لا الحصر، عن ربيع براغ سنة 1968، أو عن مظاهرات ساحة تيانانمن في بكين والتي قتل في فضّها قرابة عشرة آلاف مواطن سنة 1989؟

هل نجد برقيات ورسائل لشخصيات أو أحزاب إسلامية يمكن أن نحيل إليها طالبت نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا بوقف عنصريته التي راح ضحيتها آلاف الأنفس من الأبرياء؟ وهل نجد رسالة موقعة من حزب إسلامي طالب بالإفراج عن نيلسون مانديلا؟ أو عمن يماثله من معتقلي الرأي في التاريخ القريب أو في الوقت الراهن؟

والأمثلة التي يمكن أن نمعن في ذكرها لا تعد ولا تحصى، ولا شكّ في أنها الآن تتقافز في أذهاننا، غير أننا سنتجاوزها جميعاً لنتحدث عن سوريا والسوريين. ففي هذا اليوم نصادف الذكرى السابعة لاعتقال خليل معتوق أهم محام سوري دافع عن معتقلي الرأي ضد أشرس نظام همجي أرعن، مخاطراً بمصيره وروحه، فهل رأينا بياناً واحداً ممن يتصدر المشهد الإسلامي السوري يطالب به ويذكره عرفاناً بأياديه التي لم نشكرها، وبأفضاله التي لم نذكرها، هل نذكر كذلك مغيَّبي دوما: رزان وسمير ووائل وناظم؟ هل وهل وهل؟ أم نرضى ونفرح من الغنيمة بأن يسكتوا عنهم فلا يتناولونهم قدحاً وذماً؟

أين المشكلة؟ أفي العقل أم في الضمير أم في الوعي أم في المبدأ أم في الثقافة المتراكمة المتأصلة المتعشعشة؟

لن أنهي هذا المقال إلا بعد أن أورد نصَّ هذه الرسالة الفريدة التي خطّها يراع الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية، قبل مئة سنة ونيف، معلناً تضامنه وتأييده لتولستوي الذي تعرّض لاضطهاد السلطة الدينية الكنسية عندما طردته من رحابها فكتب إليه في 18/4/ 1904 معبراً عن تقديره ومواساته وتعاطفه، ومدللاً على رقي أفقه وعلو كعبه:

"أيها الحكيم الجليل مسيو (تولستوي):

لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكننا لم نحرم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك ألّفت بين نفوس العقلاء ونفسك. هداك الله إلى معرفة سرّ الفطرة التي فطر الناس عليها، ووفقك إلى الغاية التي هدى البشر إليها، فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم، ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعباً ترتاح به نفسه، وسعياً يبقى ويرقى بها جنسه. شعرت بالشقاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة، واستعملوا قواهم، التي لم يُمنحوها إلا ليسعدوا بها، فيما كدّر راحتهم، وزعزع طمأنينتهم [...].

فكما كنت بقولك هادياً للعقول، كنت بعلمك حاثاً للعزائم والهمم. وكما كانت آراؤك ضياء يهتدي به الضالون، كان مثالك في العمل إماماً يقتدي به المسترشدون. وكما كان وجودك توبيخاً من الله للأغنياء، كان مداداً من عنايته للفقراء.

وإنّ أرفع مجد بلغته، وأعظم جزاء نلته على متاعبك في النصح والإرشاد هو هذا الذي سمَّوه (الحرمان) و(الإبعاد)، فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين، فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم، كما كنت فارقتهم في عقائدهم وأعمالهم".

هل من بارقة صحوة ترقى بنا لسُدّة آمالنا وطموحاتنا التي تنوء بحملها الجبال فضلاً عن الجمال! فقد ضاق الحبل على الودج من دعاوينا تارة، ومن إهمالنا وإسفافنا تارة أخرى.