لماذا ستحتفظ إيران بحق الرد؟

2024.04.05 | 05:39 دمشق

5222222222222222222222
+A
حجم الخط
-A

منذ بدء الهجوم الإسرائيلي الحالي على غزة قبل قرابة ستة أشهر وإيران تتحرك، كعادتها، بذكاء لا يمكنك إلا أن تبدي إعجابك به، إعجاب قد يجرّ عليك كثيراً من الانتقاد، وأنت ابن الثورة السورية التي نالت ما نالت على يدي إيران قبل غيرها، ولكنني أجد أن التقليل من شأن الدهاء الإيراني كان وما يزال واحداً من المشكلات التي أوقعتنا في عدد من المطبات.

بشكل أو بآخر، يمتد النفوذ الإيراني اليوم على أربع دول عربية، هي العراق وسوريا ولبنان واليمن. وكل من هذه الدول تم استغلالها إيرانياً في خضم الحرب الحالية، أو لنقل تجييرها لصالح تعزيز الموقف الإيراني الإقليمي في المنطقة وفرض نفسها لاعباً رئيسياً في تهدئة المنطقة أو إشعالها.

تبدو لبنان واليمن الأكثر تورّطاً في الحرب الحالية حتى الآن، ويحلو لنا معشر السوريين المعارضين، وكنوع من رد الفعل العاطفي، أن نصف ما تفعله أذرع إيران في كل من الدولتين بأنه ضحك على اللِّحى وتهريج، محاولين السخرية منه والتقليل من شأنه. ولكن الواقع ليس كذلك مطلقاً.

فالصواريخ والطائرات المسيّرة التي تبدو بدائية ولا قيمة لها في يد جماعة الحوثي استطاعت حتى الآن أن تخلق فوضى عالمية في حركة الملاحة البحرية، فوضى نتج عنها ارتفاع كبير في أجور النقل البحري وتأخير في سلاسل الإمداد، لتضاعف من الأعباء على اقتصادات العالم المنهكة أصلاً، ناهيك عن أن محاولة الرد العبثي على الحوثيين هي محاولة منهِكة ومكلِفة عسكرياً واقتصادياً، ففي حين تحتاج إيران لعنصر حوثي واحد يحمل صاروخاً عتيقاً على الكتف أو طائرة مسيّرة بكلفة قد لا تتجاوز 100 دولار، لإيقاف حركة التجارة عبر البحر الأحمر؛ فإن أميركا وحلفاءها يتوجب عليها إنفاق مئات ملايين الدولارات عبر استنفار العديد من القطع البحرية العسكرية وخلق تحالف دولي عسكري وتنفيذ غارات جوية متلاحقة على دولة منهكَة مدمَّرة أصلاً بفعل حرب داخلية قاربت عامها العاشر، من دون أن يكون لذلك كله أثر حقيقي في إيقاف الخطر الحوثي الميليشياوي الطابع. ولعل إدراك واشنطن عبثية محاولة إيقاف هذا الخطر هو ما دفعها لإجراء محادثات سرية مع إيران في عُمان في بداية العام الحالي 2024، كما كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية مؤخراً، حيث طلبت واشنطن من إيران استخدام نفوذها لإيقاف الهجمات الحوثية، في خطوة تعكس العجز وربما السذاجة الأميركية أمام الدهاء الإيراني.

في لبنان لا تختلف الحال كثيراً، فالجبهة الجنوبية مع إسرائيل والتي ما كانت تشهد إطلاق رصاصة واحدة باتت معتادة على عشرات الصواريخ يومياً، التي يطلقها حزب الله باتجاه مستوطنات الشمال الإسرائيلي، صواريخ مرة أخرى، نتحدث عنها معشر المعارضين السوريين، ساخرين مقللين من شأنها، ولكن الواقع مجدداً ليس كذلك. فحزب الله ومن خلفه إيران لا يريدان حرباً حقيقية على جبهة لبنان، ولكنهما في الوقت نفسه لا يريدان هدوءاً تاماً، يريدان شيئاً بين هذا وذاك، حالة من اللاستقرار، وهذا اللاستقرار مرهق لإسرائيل على عكس حزب الله، أو لنقل على عكس الشعوب العربية عامة التي اعتادت اللاستقرار. ففي حين تبدو حاضنة حزب الله في الجنوب اللبناني أكثر استعداداً للتعايش مع الوضع الحالي، عبر تكرار نزوح تم اعتياده سابقاً، وامتلاك خيارات مختلفة كالذهاب إلى الضاحية أو الأقارب في مناطق أخرى من لبنان تحت شعار "عسكري دبر راسك"، يبدو الوضع على الجانب الإسرائيلي مختلفاً، حيث تقدّم إسرائيل نفسها بوصفها "دولة مسؤولة عن مواطنيها"، فمنذ بدء الحرب في تشرين الأول/ أكتوبر زاد عدد النازحين من المستوطنات الشمالية الإسرائيلية على ربع مليون مستوطن نازح، هؤلاء لم يذهبوا إلى الضاحية الجنوبية في تل أبيب أو إلى منازل أقاربهم، هؤلاء تم وضعهم في فنادق في إيلات في الجنوب ومناطق أخرى، وتتكفل ميزانية الدولة بالإنفاق عليهم، في ظل رفضهم القاطع العودة إلى منازلهم قبل فرض الأمن التام، الأمن الذي بددته صواريخ حزب الله التي تزيد أمديتها أو تنقص بشكل محسوب مع تطور المعركة تصعيداً أو تهدئة، ومن يراقب الإعلام العبري يعرف جيداً كم تؤرّق هذه القضية إسرائيل اقتصادياً وأمنياً، الأمر الذي يدفع مسؤوليها العسكريين والأمنيين لتكرار تهديداتهم بتحويل بيروت إلى غزة ثانية، عبر تصريحات للاستهلاك الداخلي. وهنا تحاول واشنطن مرة أخرى التدخّل لإيجاد حل عبر مبعوثها آموس هوكشتاين، الذي لم تتوقف زياراته بين الطرفين منذ بدء الحرب، محاولاً التوصّل لصيغة تحيّد حزب الله من المعادلة وتبعد قواته عن الحدود عدة كيلومترات، جهود يبدو أنها لم تسفر حتى الآن عن شيء هي الأخرى.

إن إيران تعمل على تنشيط التشيّع في سوريا منذ سنوات، وهذا صحيح، ولكنه لم يصل إلى المرحلة الكافية لخلق ما يمكن تسميته "حاضنة شعبية".

أما العراق، فلا يبدو لي متمايزاً كثيراً عن إيران، التي أنهكته عبر ميليشياتها وسيطرتها على خيراته ومؤسساته السياسية والعسكرية والحزبية.

في سوريا يبدو الوضع مختلفاً، ولأكثر من سبب، فأولاً الوجود الإيراني في سوريا لا يستند إلى وجود مذهبي حقيقي على الأرض، كما هي الحال في اليمن والعراق ولبنان، فالوجود الشيعي في سوريا يكاد يكون رمزياً بعكس الدول الأخرى، وهنا قد يحتجّ بعضهم بالقول إن إيران تعمل على تنشيط التشيّع في سوريا منذ سنوات، وهذا صحيح، ولكنه لم يصل إلى المرحلة الكافية لخلق ما يمكن تسميته "حاضنة شعبية"، ما زالت إيران في مرحلة شراء الذمم وإنفاق الأموال محاولةٍ صُنعَ حاضنة، وهي تعلم جيداً أن من تشيعوا اليوم بالمال يمكن لهم غداً أن يغيروا ولاءهم بالمال أيضاً، كما فعل بعضهم سابقاً مع تنظيم "داعش" والمعارضة والنظام وغيرهم. ولكنها تدرك أيضاً أن العمل هنا سيأخذ وقتاً أطول، ولذلك هي بحاجة لصبر أكبر، من خلال استهداف أطفال هؤلاء، لخلق جيل لا يحتاج للمال ليكون "حاضنة" تماماً كما يفعل الجولاني في الشمال الآن، وكما حاول "داعش" أن يفعل من قبله مع "أشبال الخلافة". أمام فقدان العمق المذهبي الذي يمكن استخدامه وادعاء تمثيله، فإن الوجود الإيراني في سوريا مرتبط بالنظام الحاكم، وتحديداً بشخص بشار الأسد. وكما عجزنا في المعارضة عن تقديم بديل مقنع لبشار الأسد، يبدو أن إيران تواجه المعضلة نفسها، ولم تجد بديلاً عنه بعد، أما إذا كانت لا ترغب في إيجاد بديل، فتلك خطيئة قد تدفع ثمنها غالياً.

وجه الاختلاف الثاني هو أن الوجود الإيراني في سوريا ليس وحيداً، إذ يواجه منافساً حقيقياً يتمثل في الوجود الروسي، وعلى عكس الوجود الروسي الذي يمكنه استبدال بشار الأسد بشخص آخر من خلال نفوذه العتيق في الجيش والأجهزة الأمنية، والترحيب الدولي ربما؛ تبدو إيران مجبرة على خيار التمسّك بالأسد. فالأسد يضمن استمرار النفوذ الإيراني في سوريا، كما يضمن عدم الصدام بين الطرفين فيها، وهو صدام لا يريده أي منهما في الوقت الحالي، الذي تشكّل فيه روسيا داعماً لإيران سياسياً أمام أميركا وعقوباتها وتهديداتها، كما تشكّل فيه إيران داعماً عسكرياً لموسكو في حربها على أوكرانيا، وفي محاولتها التحكّم بأسعار الطاقة عالمياً.

وغير خافٍ على المتابع للمشروع الإيراني، أنه لا يمكن لإيران أن تفرّط بسوريا، فخسارة كهذه تعني فقدان الاتصال الجغرافي الذي عبّدته بدماء الحرس الثوري الإيراني والميزانية الإيرانية من طهران إلى بيروت ولسنوات طويلة، ولذلك فهي مُجبَرة على الصبر لدرجات لا يمكن لنا تخيلها، وينبغي ألا نستغرب لو وصل هذا الصبر إلى مرحلة التضحية بعشرات من قاسم سليماني، صبر يحلو لأتباع إيران تسميته "الصبر الاستراتيجي"، وهو كذلك بالفعل.

والذي التقط هذه المعادلة بكل فوضويتها وأدرك أن سوريا هي الخاصرة الرخوة في المشروع الإيراني هي إسرائيل.

وهنا يمكننا أن نلاحظ كيف زادت إسرائيل تدريجياً من قوة ضرباتها للنفوذ الإيراني في سوريا، والتي قد لا تتوقف بتوقّف الحرب الحالية على غزة، إلى الدرجة التي وصلت إليها باستهداف قنصليتها في قلب دمشق (1 نيسان/ إبريل) مستهدفة رجالات من الصف الأول في فيلق القدس، الذراع الخارجية للحرس الثوري الإيراني، وهي المرحلة التي بدأت قبل قرابة 10 أيام، حينما شنت إسرائيل قصفاً عنيفاً على مواقع الميليشيات الإيرانية في دير الزور (26 آذار/ مارس)، قصفاً دفع بإيران ونظام الأسد، لشدته، لاتهام أميركا بالوقوف خلفه، قبل أن تعلن إسرائيل عبر وسائل إعلام أنها من نفّذته، ثم أعقبه قصف مماثل على أهداف إيرانية في حلب (29 آذار/ مارس).

ستحتمل إيران الضربة تلو الأخرى، محتفظة بحق الرد، وإذا ما ردّت فلن يخرج ردّها عن أسلوب الأسد بـ"الرد في إدلب"، من خلال استهداف إسرائيل على يد ميليشياتها في العراق بطائرات مسيّرة لا يعلم حتى مطلقوها إلى أين تصل.

هذا المستوى من العمل العسكري الإسرائيلي ضد إيران ما كان يحدث سابقاً، ففي حالة سليماني مثلاً رفضت إسرائيل المشاركة باستهدافه خشية العواقب، كما ذكر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. أما الآن فالأمر مختلف، باتت إسرائيل هي المنفّذ المباشر لأنها تدرك أن إيران عاجزة عن الرد عليها في سوريا، وربما لأن أوراقها باتت مكشوفة بالكامل أمام إسرائيل، إذ مجرد أن تفقد إيران "صبرها الاستراتيجي" وترد على إسرائيل في سوريا سيكون رأس الأسد هو أول الرؤوس المتدحرجة، باعتباره الممثّل الرسمي لـ "الدولة"، في حين يغيب هذا الممثّل الرسمي عن أذرع إيران في لبنان واليمن مثلاً متخذاً شكلاً ميليشياوياً، ومع تدحرج رأس الأسد، سيتدرج الوجود الإيراني في سوريا بالكامل، وربما المشروع الإيراني في المنطقة برمته. نعم للأسف، الأمر كله مرتبط بهذا الرأس، الذي يبدو أن بقاءه في مكانه في الوقت الحالي يحقق مصالح الجميع.

لأجل ما تقدّم ستحتمل إيران الضربة تلو الأخرى، محتفظة بحق الرد، وإذا ما ردّت فلن يخرج ردّها عن أسلوب الأسد بـ"الرد في إدلب"، من خلال استهداف إسرائيل على يد ميليشياتها في العراق بطائرات مسيّرة لا يعلم حتى مطلقوها إلى أين تصل، أو اليمن عبر محاولة استهداف إيلات بصواريخ باليستية من ستينيات القرن الماضي، أو عبر قصف مباشر لأربيل بزعم اكتشاف مقار للموساد، أو تنفيذ هجوم إلكتروني على مواقع إسرائيلية، أو عمليات قرصنة بحرية، أو بعض عمليات الإعدام لجواسيس مفترضين، أو استهداف قواعد أميركية في العراق، هو في كل الأحوال رد باهت ومُبلَّغ عنه سابقاً، كما حدث مع ردّها على قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق بعد مقتل قاسم سليماني في كانون الثاني/يناير 2020.

وكما ستصبر إيران استراتيجياً على الضربات الإسرائيلية في سوريا؛ ستصبر كذلك على إمكانية وجود من ينقل تحركات رجالاتها إلى إسرائيل داخل الأجهزة الأمنية السورية، من المحسوبين على روسيا، رغبة في تجنّب الصدام مع موسكو للأسباب التي ذكرتها سابقاً.

تدرك طهران اليوم أن إسرائيل أمسكتها من اليد التي توجعها، سوريا، وتدرك أيضاً أن "الاحتفاظ بحق الرد" ليس سلاحاً لا نهائياً كما هي الحال لدى بشار الأسد، حيث يزداد عليها الضغط الشعبي للرد بشكل ما، رد لا يدفع إيران لارتكاب خطأ استراتيجي يُذهِب كل صبرها الاستراتيجي أدراج الرياح!

وأمام حفل عض الأصابع العالمي هذا، ينتظر الجميع، ونحن بينهم، من سيصرخ أولاً، إيران أم أميركا وإسرائيل، صراخ سيترتب عليه الكثير، فإن صرخت واشنطن وتل أبيب أولاً حازت إيران تنازلات عديدة في ملفات العقوبات والملف النووي وغيره مع تسويق إعلامي عن انتصار المقاومة والاقتراب من القدس، أما إن صرخت إيران فستفقد أول ما تفقد، سوريا ثم لبنان، فاتحةً البابَ أمام إعادة ترتيب كامل للمنطقة.