لماذا الانزعاج من اللافتات العربية في تركيا؟

2022.07.30 | 06:27 دمشق

لماذا الانزعاج من اللافتات العربية في تركيا؟
+A
حجم الخط
-A

أثير في تركيا مؤخراً موضوع اللافتات العربية التي تعلق على أبواب المحال التجارية وما شابه، ولم يقف عند هذا الحد فحسب؛ فقد أبدى بعض الأتراك انزعاجهم حيال عرض منتج ألبسة للأطفال على موقع إلكتروني لمتجر تركي شهير لمجرد أن المنتج كُتب عليه جملة بالعربية "حان وقت اللعب"، مما دفع الشركة ذاتها لتوضيح الموقف وأن ما حصل كان خطأ، بيد أنها ومثيلاتها العشرات في تركيا تبيع منتجات مليئة بالحروف والكلمات والجمل الإنجليزية أو غيرها من اللغات.

الموضوع لم يقتصر عند هذا الحد، بل وصل لانتقاد اللغة العربية ذاتها، فمثلاً الكاتب التركي في علم الإلهيات (الشريعة) -كما يعرف عن نفسه- المحسوب على المعارضة، جميل كليج، انتقد اللغة العربية في تغريدة عبر تويتر، ونعتها "باللغة الفقيرة؛ لأن معظم الكلمات في اللغة العربية تأتي من اللغة اليونانية واللاتينية والحبشية والفارسية.. أما اللغة التركية "لغة غنية" تأتي معظم كلماتها من نفسها".

ناهيك عما صرح به أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، في 26 تموز الجاري، من أنه "سيتصدى" للعدد المتزايد من اللافتات العربية في إسطنبول، فهذا الوضع "غير مقبول"، وأنه يقوم بعمل مشترك مع بلدية الفاتح التابعة للحزب الحاكم "العدالة والتنمية" لمكافحة "تعريب" اللافتات".

ولن أطيل بالأمثلة المتعددة أو السرد الهجومي عبر مواقع التواصل الاجتماعي ضد اللغة العربية و"الاشمئزاز" من رؤية حروفها أو سماعها في الشوارع. أعتقد أن هذه اللمحة كافية لإعطاء صورة عن الجدل الحاصل في تركيا حول هذا الموضوع، ولذلك دعونا نطرح عدة أسئلة:

لم تكن العربية مجرد حروف ولغة في ذلك الحين، بل كانت هوية وديناً وفكراً ومفردات أخرى من جملة المنقلبات التي ثارت عليها الجمهورية،

لماذا هذا القدر من الانزعاج حيال اللغة العربية بالذات؟ وهل الموضوع مقتصر عليها أم الأمر ينطبق على سائر اللغات الأجنبية في تركيا؟ ولكي أكون منصفاً أخذت على نفسي أن لا أكتب عن هذه المسألة انطلاقاً من رأيي الشخصي وقناعتي فحسب، بل من خلال الحديث وتداول الآراء مع أصدقاء ومعارف أتراك، من مختلف الأطياف والميول السياسية والاجتماعية.

عنصر الثقافة والتاريخ

لو قلنا إن للوعي الثقافي والذاكرة التاريخية دخلاً في هذا الموضوع، لظن البعض أن ذلك ضرب من ضروب المبالغة، لكن صديقاً تركياً لفت انتباهي لنقطة جوهرية في هذا الموضوع، تختزن داخل وعي كثير من الأتراك، خاصة القوميين والجمهوريين الكماليين، تعود لعام 1928 حينما أعلنت الجمهورية الحديثة "انقلاباً لغوياً" غيّر شكل الحروف من الأبجدية العربية إلى اللاتينية، ضمن إجراءات عديدة اتسقت في إطار تشكيل هوية وطنية قومية على أنقاض هوية دينية كانت تنتهجها السلطنة العثمانية الغابرة.

لم تكن العربية مجرد حروف ولغة في ذلك الحين، بل كانت هوية وديناً وفكراً ومفردات أخرى من جملة المنقلبات التي ثارت عليها الجمهورية، وبما أن هذه الحروف لو بقت ستخالف التيار الماشي نحو "الأفضل" نحو طريق "الحضارة والمدنية" فيجب نسخها ومسحها، حتى ولو كان العديد من رجالات الجمهورية لا يتقنون الكتابة إلا بها حتى وفاتهم.

ليست الحروف فحسب، بل حتى اللباس الذي يمكن أن يظل مرتبطاً بعقول وضمائر "الأوفياء" للحضارة العثمانية كان التخلص منه واجباً، ولذا أعلنت الجمهورية ما عُرف بـ "قانون القبعة" عام 1925، لتقضي على الطاقية والطربوش وكل ما يرمز لقيمة دينية في وعي الناس، وفُرض عليهم ارتداء ما يرتديه الغرب "المتحضر والمتقدم".

هذه القوانين وغيرها التي صاحبت إرساء قواعد الجمهورية الحديثة؛ نعم لا تزال راسخة بل ومقدسة في وعي جمهور كبير لا يمكن اختزاله في فئة أو حفنة من الناس.

في هذا السياق، يختزن في العقل اللاواعي أيديولوجيات تنعت العرب بالبدو الذين يعيشون في الصحراء ويمتطون الجمال ويلبسون القمصان الطويلة ويتحدثون بلغة صوتها ثقيل على الآذان الطرية، على الرغم من أنها لغة القرآن التي يدين ويؤمن به شعوب تفوق بعددها العرب كلهم مجتمعين، لكن عنصر الثقافة والتاريخ والأهم من ذلك عنصر قيم وركائز دولة؛ يتفوق على كل ما سبق؛ ربما.

لا شك أن جمهوراً كبيراً أيضاً غير متفق مع هذا الانزعاج من اللغة العربية التي "يعتزون بها" فهي لغة القرآن والفصاحة والبلاغة، ولغة الشعر والعروض أيضاً، وبالمناسبة نجد فن العروض بالأدب التركي هو ذاته الأوزان الشعرية التي أوجدها العرب.

صديقة تركية تدرس اللغة العربية، تأسف على هذا الانزعاج "المخجل" من لغة القرآن في بلد نسبة المسلمين فيه 99%، ولا شك أن مثلها مئات الآلاف من الناس، لكن أصواتهم لا تحضر في الإعلام أو لا تثير زوبعة كما تثيره تلك التي تحتقر لغة بعينها يتحدث بها ملايين الناس، وهي بالمناسبة واحدة من اللغات الرسمية الست المعتمدة لدى الأمم المتحدة.

لكن في المقابل، هل يا ترى نجد هذه الانزعاج والحساسية المفرطة المصحوبة مع العربية، عند لغات أخرى مثل الإنجليزية مثلاً أو الألمانية وغيرهما؟

صديق آخر، وهو على وشك إنهاء رسالة الدكتوراة في الآداب التركية بجامعة مرمرة، قال لي إنه لا يتفق مع الطرح القائل بأن الأمر مرتبط بوعي ثقافي وتاريخي، بل إن الأمر يتعلق بالدرجة الأولى من الوضع الراهن والنقمة على الحزب الحاكم الذي ينتقده هو أيضاً.

حسب رأيه، فإن اللغة الإنجليزية ليست أجنبية، بل باتت لغة رسمية أو ثانية بالضرورة في سائر بلدان العالم، في إطار العولمة الراهنة، ولذا فإن السر من عدم وجود مشاعر نافرة منها على عكس العربية، مرتبط بعالمية هذه اللغة، وتفوقها على سائر اللغات في قطاعات العمل والعلم.

حسناً، لكن لماذا لا نجد حملات مناهضة للافتات الروسية في أنطاليا التي تعج بملايين الروس كل صيف؟ أو باللغة الألمانية وكذلك الروسية التي نلحظها في العديد من مناطق إسطنبول لا سيما العتيقة منها؟ لا جواب مقنع!

لا أظن أن السبب عنصري بالمقام الأول، بقدر ما هو مرتبط بوعي الناس في هذه البيئة التي فرضت عليها مرحلة تاريخية أن تنسخ كل ما يرتبط بهويتها الأم، وتستعيض عنها بعناصر هوية جديدة "غربية" محضة

كذلك السياح الأجانب "الغربيون" أصحاب البشرة الشقراء والمدنية المتفوقة تعج بهم إسطنبول وغيرها من المدن التركية الجميلة، يتجولون في الشوارع بلباسهم التقليدي ويتحدثون في المواصلات بصوت غير خافت، ومع ذلك -بالنسبة لي- لم ألحظ انتقادات واضحة أو مظاهر استياء من سماع أصواتهم يتحدثون بلغتهم.

لا أظن أن السبب عنصري بالمقام الأول، بقدر ما هو مرتبط بوعي الناس في هذه البيئة التي فرضت عليها مرحلة تاريخية أن تنسخ كل ما يرتبط بهويتها الأم، وتستعيض عنها بعناصر هوية جديدة "غربية" محضة، وهو ما يحكيه لنا التاريخ القريب بوضوح.

هذا الانقلاب سيولد كل حين شعوراً لا إرادياً يستاء من كل ما يرتبط بالهوية القديمة من لغة وفكر ولباس ومظهر، ويرحب بكل ما يرتبط بالهوية الجديد من عناصر مشابهة.

وما يؤكد هذا الطرح أيضاً، لنفترض أن أحدهم علق لافتة باليونانية في أدرنة، أو بالأرمينية في بعض المناطق الشرقية وغيرها؛ سنجد حملات مناهضة لذلك، لأن هذه العناصر (اللغة) تستحضر احتلال اليونان لإزمير، والأحداث الدموية مع الأرمن في قارص وغيرها.

في الختام، لا أريد من هذا الطرح التبرير لبعض الأخطاء التي يلحظها الكثيرون، والتي تعد إخلالاً بالآداب العامة في الشوارع، مثل التحدث بصوت عالٍ في الشارع ووسائل النقل، فهنا لا يتعلق الأمر بلغة بعينها بقدر ما هو بات تعكيراً للهدوء المفترض أن يكون موجوداً في هذه الأماكن حتى لا ينتهك حرية أو راحة الآخرين.