لكي لا يكون مقتل سليماني خسارة فرصة للدولة الوطنية العربية

2020.01.15 | 20:46 دمشق

2-3-780x405.jpg
+A
حجم الخط
-A

الضربة التي تلقتها إيران على الرأس بمقتل قاسم سليماني، أدت إلى ارتجاج في عقل النظام الإيراني. الارتجاج انعكس ارتباكاً داخل بنية النظام، الذي خرج المتظاهرون الإيرانيون مجدداً منتفضين عليه ومطالبين بإسقاطه وصولاً إلى مطالبة المرشد علي الخامنئي بالتنحّي، بعد الاعتراف الرسمي بإسقاط الطائرة المدنية الأوكرانية بالقرب من طهران.

يعكس الارتباك داخل بنية النظام، صراعاً مديداً بين أجنحة متعددة. ولكن لا يمكن الغرق في أوهام صراع الأجنحة، لأن طهران تعرف جيداً كيف تستثمر فيه وتقدّم الصورة التي تريدها للخارج، مع الإشارة إلى أنه لا يمكن الفصل بين جناح إصلاحي وآخر متشدد لأن الطرفين لديهما نفس التوجهات بصيغ مختلفة.

كل التهديد والوعيد الإيراني بالانتقام لسليماني، تركز على الجانب الإعلامي والمعنوي، وهو النموذج الذي تعمّمه إيران على حلفائها في كل المنطقة ضمن اللعبة الإعلامية البعيدة عن الواقعية. الغاية منها إشاعة أجواء انتقامية وانتصارية، سرعان ما تبددها الوقائع، فظهر أن الصور التي نشرت لإطلاق الصواريخ على قاعدة عين الأسد في العراق، هي صور لمناورة عسكرية إيرانية قديمة، والصور للتفجيرات التي نجمت عن سقوط الصواريخ كانت مأخوذة من معارك في سوريا قبل سنوات. هذه اللعبة الإعلامية هي التي ارتكزت عليها إيران لتقديم نموذج تمددها في المنطقة، وهي انعكاس لهشاشة حقيقية في البنية الإيرانية، تجلّت في التخبط الذي حصل بعد اغتيال سليماني.

كانت طهران قد نسّقت ضربتها مع الأميركيين قبل إطلاق الصواريخ، أبلغ الأميركيون قبل خمس ساعات من تنفيذ الضربة، فاتخذوا الإجراءات اللازمة. يكفي تسريب هذا الخبر، لاستشراف عمق التقاطع المصلحي

اغتيال سليماني سيمثل مصلحة للطرفين الإيراني والأميركي، ولكنه أيضاً سيمثل تحولاً في مسار التطورات في المنطقة

الإيراني الأميركي في المنطقة، وفي الأساس لم يكن النفوذ الإيراني ليتمدد في المنطقة العربية، لو لم تكن هناك موافقة أميركية عليه. اغتيال سليماني سيمثل مصلحة للطرفين الإيراني والأميركي، ولكنه أيضاً سيمثل تحولاً في مسار التطورات في المنطقة. ثمة جهة داخل النظام الإيراني تستفيد من اغتيال سليماني الذي كان حجر عثرة أمام المفاوضات، فيما واشنطن ستقدّم نفسها وكأنها التي تخلّصت من رأس حربة التوسع العسكري الإيراني في المنطقة. فيما الخشية من انعكاسه أن يتم تكريس التوسع السياسي الإيراني في المنطقة العربية.

وبقدر التأثير الكبير لاغتيال سليماني على حلفاء إيران في المنطقة، إلا أن النظام الإيراني سيحاول الاستثمار إلى أقصى الحدود، بتوفير الالتفاف الشيعي خلف إيران وخياراتها، بعد أن كانت المناطق الشيعية في العراق وفي لبنان تتظاهر للمطالبة بالتغيير ورفض هذه السطوة، كما أن التظاهرات كانت قد عمّت شوارع المدن الإيرانية منذ أشهر. ستستخدم إيران اغتيال سليماني ذريعة للانقضاض على التظاهرات، ولإعادة تجييش العصب الشيعي خلفها، وهي اللعبة ذاتها التي مارستها ضد الثورات العربية وخصوصاً الثورة السورية لسحقها وتفريغها من مضمونها عبر شيطنتها باللعبة السنية الشيعية، أو بالتطرف الذي ينتج تطرفاً مضاداً.

لا بد للصراع وأن يكون طويلاً، حتماً سيكون لما جرى تأثير على إيران، ولكن الأساس يبقى في عدم منحها فرصة المتاجرة مجدداً مع الغرب بالقضايا العربية، لإعادة تثبيت نفوذها السياسي، خاصة أنها طوال السنوات الماضية لعبت لعبة حماية الأقليات ومحاربة الإرهاب لتبرير دورها وتدخلها في الدول العربية، إلا أنه بعد مقتل سليماني، جاءت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السريعة إلى دمشق، والتي استدعى فيها بشار الأسد

كان مشروع قاسم سليماني في المنطقة العربية، مشروعاً يتطابق كلياً مع ما تريد الولايات المتحدة الأميركية تكريسه ضمن إرساء مبدأ جديد للنظام العالمي

إلى مقر القوات الروسية وجال معه على عدد من الكنائس، في إشارة روسية واضحة إلى أن موسكو هي حامية الأقليات. هذا الدور الروسي من شأنه أن يتوسع أكثر في سوريا، على حساب الدور الإيراني، الذي يتقوض شيئاً فشيئاً، ويجد الإيرانيون وحلفاؤهم أنفسهم مطوقين بلا هوامش واسعة للتحرك على الجغرافية السورية.

كان مشروع قاسم سليماني في المنطقة العربية، مشروعاً يتطابق كلياً مع ما تريد الولايات المتحدة الأميركية تكريسه ضمن إرساء مبدأ جديد للنظام العالمي. هذا النظام الذي يقوم على التشظي في البنى الأساسية للدولة الوطنية، ومسح حدودها وإنهاء سيادتها لصالح جماعات مؤثرة ومتداخلة فيما بينها على أسس عرقية أو مذهبية. وهو النموذج الذي يتم تكريسه في أكثر من دولة عبر القضاء على مقومات وجودها، وتشريع أبوابها لمناطق النفوذ. كما هو الحال في سوريا، التي أصبحت تحتوي على مناطق نفوذ متعددة، تتقاسمها، تركيا، روسيا، أميركا وإيران. وهذا النموذج يتعمم على كل دول المنطقة كاليمن والعراق، وسينسحب على لبنان. وهو المؤسس لانهيار الدول الوطنية ومؤسساتها، لصالح تكوين جديد في بنية هذه الدول في إطار النظام العالمي. وتمثل إيران أولى بوادره، كحالة إلغاء أي دور للجيوش الوطنية، مقابل إسناد القوة إلى جماعات موالية لها، على غرار تهميش دور الجيش الإيراني لصالح الحرس الثوري، وتكريس دور الحشد الشعبي في العراق، أو محاولتها السابقة لإرساء دور ميليشيات الدفاع الوطني في سوريا، ودور حزب الله العسكري في لبنان كبديل للجيش.

اغتيال سليماني يرمز إلى أن ثنائية الدولة والدويلة في الهلال الإيراني تلقت ضربة في الرأس أيضا، ضربة قد تكون قاتلة إذا ما التقطتها الشعوب التي لاتزال تنتفض وتقاتل من أجل كرامتها المواطنية والوطنية، من أجل صوغ الشرعية الوطنية للسلطة والمظلة العربية للدولة.