لقد مات "أولوف بالمه" بسببي

2022.09.13 | 07:13 دمشق

لقد مات "أولوف بالمه" بسببي
+A
حجم الخط
-A

ليس سياسيا عادياً، وليس رجل دولة بالمعنى التقليدي للكلمة، إنه رجل من طراز آخر، سياسي يرى الأخلاق في صلب السياسة، شجاع، وقادر على المواجهة، ولا يمكن لأي قارئ لتاريخ السويد المعاصر إلا أن يعترف بأهمية حضوره فيه، يتقن ست لغات، ورغم أنه ينتمي لأسرة أرستقراطية، وكان نائباً، ثم وزيراً، ثم رئيسا للوزراء،  إلّا أنه كان يستعمل وسائل النقل الجماعية دوماً، وعندما اغتيل كان خارجاً مع زوجته من دار للسينما، ويتجهان إلى محطة مترو للذهاب الى بيتهما، عندما أطلق عليه رجل الرصاص لينهي حياة رجل سيظل ملهما لأجيال كثيرة داخل السويد وخارجها، وسيظل حاضراً عندما نريد القول إن السياسة ليست مجرد مصالح، وإنه يمكن للحق وللقيم أن تكون حاضرة فيها، إنه "أولوف بالمه".

عام 1927م، ولد أولوف بالمه لأسرة أرستقراطية، وانضم إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي في عام 1949م، وأصبح رئيساً للحزب 1969، هو أحد مؤسسي نظام الرعاية الاجتماعية السويدي، الذي يُصنف من أفضل النظم الاجتماعية في العالم، وهو من رسّخ نظام دور الحضانة والرياض في النظام الاجتماعي السويدي، ليعزز المساواة بين الجنسين، ويعطي المرأة وقتها، لتصبح شريكاً أساسياً في كل أوجه الحياة.

عارض الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا 1968م، فاتهمه الشيوعيون بأنه رأسمالي، وتقدم مظاهرة في ستوكهولم دعت إليها "لجنة أنصار فيتنام" ضد الاحتلال الأميركي لفيتنام، كان يومها وزيراً، الأمر الذي اعتبرته الحكومة الأميركية موقفاً رسميا للسويد، فسحبت سفيرها من ستوكهولم، وطالبت المعارضة السويدية يومها بإقالته، ووصفته بأنه "خائن للوطن"، ليس هذا فحسب، بل إن الرئيس الأميركي "نيكسون"، رفض لقاءه عندما قام بزيارة الولايات المتحدة الأميركية.

لم يذعن "بالمه" للضغوط الأميركية، لا بل فتح السويد أمام الجنود الأميركيين المغادرين لجبهات القتال في فيتنام، الرافضين لقتل الشعب الفيتنامي

غضبُ "نيكسون" من "بالمه" وصل إلى أعلاه في عام 1972م، عندما عاودت أميركا قصفها لفيتنام الشمالية، يومها كتب "أولوف بالمه" عن هذا القصف قائلاً: (علينا تسمية الأشياء بمسمياتها. إن ما يجري في فيتنام اليوم هو عملية تعذيب، حيث لا توجد أية مبررات عسكرية للقصف الأميركي. إن هذا التعذيب والقتل الممنهج لشعب كامل، وإهانته، وإجباره على الخضوع بالقوة، يُشكّل عملية قتل لها مثيلاتها في هذا العصر)، وكان "بالمه" يشير بذلك إلى ما اقترفته النازية الألمانية من مذابح ضد الشعوب الأخرى، على إثر تصريحه هذا، قام  الرئيس الأميركي "نيكسون" بطرد السفير السويدي من واشنطن، وطالبت أحزاب تكتل المعارضة البرجوازية السويدية رئيس الوزراء السويدي بسحب أقواله، والاعتذار، بدلاً من الوقوف إلى جانبه، في موقفه العادل.

لم يذعن "بالمه" للضغوط الأميركية، لا بل فتح السويد أمام الجنود الأميركيين المغادرين لجبهات القتال في فيتنام، الرافضين لقتل الشعب الفيتنامي.

وقف "أولوف بالمه" أيضاً وبكل حزم، ضد الديكتاتور الإسباني آنذاك، الجنرال فرانكو، ووصف جهاز حكمه “بالقتلة الشياطين”، وهناك صور له وهو يقف في أحد شوارع ستوكهولم يجمع التبرعات من المواطنين السويديين، لصالح الشعب الإسباني والمعارضة.

في عام 1974م، رتب الرئيس الجزائري "هواري بومدين" لقاء جمع "أولوف بالمه" مع الزعيم الفلسطيني "ياسر عرفات" في الجزائر العاصمة، يومها قامت الدنيا في السويد ضده ولم تقعد، متهمة إياه بدعم الإرهاب، ففي تلك الفترة كانت منظمة التحرير الفلسطينية، وبضغط إسرائيلي وأميركي وغربي تصنف على أنها منظمة إرهابية، ويومها أيضاً وقف "بالمه" بشجاعة في وجه منتقديه قائلا:

(إننا نرى أنه يوجد هناك شعب فلسطيني، ولهذا الشعب حقوقه الوطنية.. لذا وبطريقة ما، علينا الاتصال مع هذا الشعب، وهنا بالنسبة للسؤال: هل منظمة التحرير الفلسطينية، هي الممثل لهذا الشعب؟ فأنا شخصياً أثبت هنا بأن الدول العربية قد اعترفت من جانبها بهذا التمثيل.. إننا لا نستطيع القول بأن إسرائيل هي التي تقرر كيفية التعبير عن الهوية الفلسطينية، فهذا سيكون هراء بعينه.. إننا لا نرى حتى الآن بديلاً آخر عن منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً أكثر شرعية للشعب الفلسطيني… وهناك من يقول بأن على منظمة التحرير الفلسطينية أن تستسلم قبل دخولها المفاوضات، فليعلم هؤلاء بأن ما انتقدنا به إسرائيل، هو أنها ليست مستعدة، وقبل المفاوضات، أن تتخلى عن المناطق التي احتلتها، وهذا ما عرقل جهود مبعوث الأمم المتحدة، السويدي "جونّار يارينج").

ذلك العام اعتبره كثيرون أنه عام منظمة التحرير الفلسطينية على المستوى الدولي، حيث كان لصوت الحكومة السويدية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، الترجيح لقبول المنظمة كعضو مراقب في الجمعية بالشهر نفسه الذي التقى فيه "بالمه" مع "عرفات" عام 1974م في الجزائر.

قام "بالمه" وبالعام نفسه 1974م، بالتحدّث أمام جماهير السويد في كنيسة القديس توماس الكبرى في ستوكهولم، مؤكّداً، على الحقوق الوطنية والشرعية للفلسطينيين. وسمحت حكومته في العام الذي تلاه 1975م بفتح مكتب إعلامي لمنظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة ستوكهولم.

لقد كان عام  1974م، نقطة التحول الرسمية في علاقة السويد بقضية الشعب الفلسطيني. وبالطبع فإن إسرائيل وأتباعها وأصدقاؤها وأحباؤها على الساحة السويدية، لم يكونوا راضين عن التطورات التي بدأت تحصل داخل أكبر حزب حاكم سويدي، لقد توجست إسرائيل من التوجهات السياسية ل"بالمه" ورفاقه، لحرف الحزب عن علاقته القوية بإسرائيل، والالتفات لجانب حقوق الشعب الفلسطيني، توجساً تطور إلى حد الكراهية ل"بالمه" شخصياً.

المستشار النمساوي يومها "برونو كرايسكي "،قال في كلمته أمام الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في الجزائر: (لقد كان السيد "أولوف بالمه"، ومنذ البداية، الوحيد داخل الاشتراكية الدولية الذي وقف معي موقفاً حازماً، لصالح منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني).

خسر "أولوف بالمه" وحزبه الانتخابات في السويد 1976م، لكنه استعاد فوزه مرة أخرى 1982م.. في ذلك العام اجتاحت اسرائيل لبنان وحاصرت عاصمته "بيروت"، وكان رد "أولوف بالمه" الجريء على ذلك بأنه رفض السماح لرئيس حزب العمل الإسرائيلي "شمعون بيريس"، وكذلك الهستدروت الإسرائيلي بالمشاركة، كعادتهم، في مظاهرة يوم العمال العالمي التقليدية، التي يقوم بها عادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي السويدي، في اليوم الأول من أيار/مايو من كل عام، أغضب موقف "بالمه" إسرائيل وأنصارها في السويد، يومها تصدر "بالمه" تلك المظاهرة في الأول من أيار/مايو، من عام 1982 وإلى جانبه زعيم ثورة نيكاراغوا "دانييل أورتيغا"، وهذا بدوره ما أغضب الولايات المتحدة الأميركية.

فيما يتعلق بقضية الشعب الفلسطيني، كان "بالمه" محاصراً داخل السويد، خاصة أن أحزاب المعارضة ومجموعة الضغط الإسرائيلية القوية في المجتمع السويدي، كانت حتى تلك الأيام قوية جداً ومؤثرة، وتقف له بالمرصاد، لكنه كان مصمماً على دفع علاقات السويد مع منظمة التحرير قدماً، لذلك تمت دعوة السيد "عرفات" إلى السويد، باسم تنظيم الأخوة داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وليس باسم الحكومة، ودعي لحضور هذا الحدث التاريخي في ستوكهولم زعماء الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في دول الشمال، على أمل أن يصدروا بياناً مشتركاً عن الزيارة هذه، وتقدم للعالم رسالة سلام تتضمن الاعتراف بإسرائيل، وقد استندت منظمة التحرير في مرونتها تلك، على قرارات مؤتمر القمة العربية الذي عقد في مدينة فاس المغربية.

دفع "أولوف بالمه" ثمناً باهظاً لعلاقته بمنظمة التحرير الفلسطينية، فكُفّر  واتُهم بالخيانة، وهُدّد بالقتل

وفعلاً وطئت قدما الزعيم الفلسطيني أرض العاصمة الأكبر في دول الشمال، ستوكهولم بتاريخ 13 نيسان (آبريل) من عام 1983م. التقى "عرفات" يومئذ بزعماء الاشتراكية في كل من الدانمارك (السادة أنكر يورجينين، وشيلد أوليسن)، والنرويج (السيدة جروهارليم برونتلاند، والسيد تورفالد تولتينباري)، وفينلندا (السيد اريكي ليكانين)، والسويد (السيد أولوف بالمه، وستين أندرشون)، وقال "بالمه" عن هذه الزيارة: (إن دعوة الأحزاب الاشتراكية في دول الشمال للسيد ياسر عرفات تشكل دفعاً خجولاً للجهود الرامية لعملية السلام… لقد مضى الزمن الطويل على دول الشمال، لدعم قضية الشعب الفلسطيني).

دفع "أولوف بالمه" ثمناً باهظاً لعلاقته بمنظمة التحرير الفلسطينية، فكفّر واتهم بالخيانة، وهُدّد بالقتل، وفي لقاء له داخل كنيسة مع معارضين لسياسته تم شتمه بأقذع وأبذأ الكلام، واتهم باللاسامية وعلى أنه نازي، وبصق عليه وهو داخل المكان المقدس -الكنيسة - وأمام عدسات المصورين من التلفزة، والصحافة المكتوبة.

يوم الجمعة، 28 فبراير عام 1986م، الساعة 23:21 بتوقيت وسط أوروبا، أُصيب "أولوف بالمه" رئيس وزراء السويد، إصابة قاتلة برصاصة واحدة، بعد خروجه من السينما مع زوجته "ليزبيت بالمه"، في شارع ستوكهولم المركزي "سفيفاغن"، وأُصيبت "ليزبيت بالمه" بجروح طفيفة من طلقة ثانية، لم يكن لدى الزوجين حراس شخصيون معهم.

بعد سنة من اغتياله، نشرت الصحيفة السويدية المسائية، جريدة المساء “آفتون بلاديت” في عددها الصادر بتاريخ 3 أيار/مايو، من عام 1987م، تعليقا للرئيس الفلسطيني "ياسر عرفات"، قال فيه: (لقد مات أولوف بالمه بسببي).