لغة الإعلام... هل نجونا من مكائدها؟

2020.01.13 | 19:30 دمشق

alam.jpg
+A
حجم الخط
-A

إن العلاقة بين الإعلام والسياسة علاقة وثيقة ومتشابكة منذ القدم، فلقد دأب الملوك والأمراء على تقريب الشعراء منهم بهدف الترويج لموضوع ما أو الدفاع عن قضية معينة، وارتقى أصحاب الملكات الفكرية واللغوية إلى صدر المجتمع، وخيرُ مثال على ذلك عندما أرسلت قريش عمرو بن العاص إلى الحبشة ليقنع ملكها بطرد المسلمين الواصلين إلى الحبشة حديثاً، وقريش لم تختر عمرو دون سواه بشكل اعتباطي، بل اختارته نظراً لمهاراته في الإقناع وملكته اللغوية الفريدة التي ميّزته عن سواه. وتطورت الأمور في عصرنا الحالي لتصبح لغة الإعلام سلاحاً خطيراً لا يقلّ فتكاً عن الأسلحة التقليدية، فهو قادر على تدمير وهدم مفاهيم وقيم ومجتمعات بل وأديان دون أن تُطلق طلقة واحدة، فأصبحت الكلمة أكثر مدعاة للخوف من الرصاصة.

لقد أصبحت لغة الإعلام بمرور الزمن سلاح العصر، حيث يتم استخدامه بمعايير مختلفة حسب المنطقة ونظام الحكم وسياسة الناشر، فاللغة المستخدمة في الإعلام العربي تكاد تكون واحدة، وسياسة النشر تتبنى خطاً واحداً يقوم على مبدأ تلميع كل ما يتوافق مع سياسة الحاكم وتقزيم كل ما يتنافى مع ذلك، فعلى سبيل المثال لا الحصر، خلال خبر يتناول مقتل الصحفي جمال خاشقجي وردت عبارة (تجزئة الجسد)، واستوقفتني هذه العبارة مطوّلاً، لماذا لم يقل الناشر مثلاً (تقطيع الجثة) وسيكون ذلك أقرب لغوياً إلى الشارع العربي؟ ببساطة شديدة تعمّد الناشر تقزيم جريمة نكراء بشعة وتقطيع جسد إنسان من خلال استخدام كلمات محددة دون سواها لتلطيف الخبر وجعله سلساً ووقعه خفيفاً على المستمع، وهذا ما يُسمّى في الإنجليزية euphemism، أي لطف التعبير، وبهذه الطريقة يؤثر الناشر على وعي القارئ ويشارك في تشكيل موقفه اتجاه حدث معيّن يتعلق بسياسة ما.

وبالعودة للسبب الذي كُتبت هذه السطور لأجله، كنت أتلمس في بداية الربيع العربي ما حسبته موضوعية في تغطية الغرب لثورات الربيع العربي، فمثلاً استخدم الصحفيون كلمة Revolution لوصف الثورة و Revolutionaries لوصف الثوار وهي كلمات ذات مدلول إيجابي "Positive connotations" في الثقافة الغربية والتي يقابلها في اللغة العربية "ثورة" و "ثوار". لكن وبعد مرور عدة سنوات برزت أنياب الصحافة الغربية ونهشت الثورات العربية وقزّمتها تدريجياً، فالآن يستحيل على القارئ العربي أن يقرأ كلمة ثورة أو ثوار في الإعلام الغربي (والعربي أيضاً لأنه حذا حذو الغربي)، بل استبدلتها الصحافة الأجنبية بكلمات مثل Rebels  Rebellion and والتي تحمل في طياتها معناً سلبياً جداً وتعني تمرد ومتمردين، و Civil war والتي تعني حربا أهلية (وهنا تكريس لمبدأ المساواة بين الضحية والجلاد) وفي أحسن الحالات يستخدمون كلمة (ٍSyrian Conflict) والتي تعني الصراع السوري.

قد يسأل سائل: لماذا لم تقم الصحافة الأجنبية منذ البداية بتشويه الثورات والحراك الشعبي؟ ولماذا انتظرت سنين طوال لتقوم بذلك؟ قد تكون الإجابة: إن الشعوب العربية التي طفح بها الكيل وتنفّست الحرية بعد عقود من القهر، لم تكن لتسمح لأي أحد بالمساس بأعظم إنجاز حققه شباب الربيع العربي، وهو كسر حاجز الخوف، والثورة على الطغيان، ولذلك اتّخذت الصحافة الأجنبية منحاً مختلفاً وتبنّت فكرة أن قطرة ماء مستمرة قد تفلق الصخرة عبر السنين، لكن سكب برميل من الماء دفعة واحدة لن يجدي نفعاً، وترافق ذلك مع حملات ممنهجة طويلة الأمد لنسف كل الجانب الإيجابي المشرق عبر استخدام مفردات لها مدلول سلبي Negative connotations تؤثر على موقف القارئ تدريجياً مثل "المعارضة المسلحة و الفصائل الإسلامية المتشددة والنزاع السوري إلخ..." وللأسف انجرفت بعض وسائل الإعلام الثورية عن غير دراية وراء هذه السياسات الإعلامية المدمرة وأصبحت تكرر ما تتداوله آلة الإعلام الغربية، وبالإضافة إلى ذلك، افتقد عدد لا بأس به من إعلاميي الثورة الموضوعية في تغطيتهم الإعلامية، أو وقعوا في فخ المكائد الإعلامية وشوّهوا مفاهيم ثورية وخدموا أجندات خارجية دون أن يعلموا، وقد يكون ذلك ناتجاً عن قلة الخبرة أو نقص في الكوادر الإعلامية المحترفة، مما جعل الإعلام الثوري كلأً مشاعاً لكل من هب ودب.

لا مفر من الاعتراف أننا في مواجهة إمبراطورية إعلامية عالمية تعمل على تلقين شعوبنا ما تريد، وتنسف مفاهيم وتؤسس لمفاهيم أخرى حسبما تقتضي مصالحها

ولم يكتف الغرب، عبر إمبراطوريته الإعلامية، بتحويل الربيع العربي إلى خريف الفوضى والإرهاب، بل وصل به الأمر إلى المساس بالمعتقدات الدينية وتشويه صورتها وتقزيم كل ما هو كبير وتدنيس كل ما هو مقدس في الثقافة الإسلامية والمجتمع الشرقي، وكل ذلك حصل وما يزال يحصل بموافقتنا وعن طيب خاطر بعد أن اعتدنا عليه بل واستطبنا السموم التي يبثونها في وجبات إعلامهم المشبوه، وإذا ما استغرب القارئ مما ذكرته أعلاه؛ أقول له تعال بنا نستذكر بعض المصطلحات كيف كانت قبل الربيع العربي وكيف أصبحت الآن، وخير مثال على ذلك كلمة الخلافة (Caliphate)، حيث كانت كلمة "الخلافة" كلمة مشرقة تحمل في طياتها كل معاني العز والفخار والفتوحات، تحمل في طياتها تاريخ سادتنا الصديق وعمر وعثمان وعلي، تحمل في طياتها العدل والتسامح والصدق والإخلاص، لكن ماكينة الإعلام الغربية (وداعميها من المستعربين) وأدت مفهوم الخلافة الإسلامية عند الشباب المسلم للأبد عبر اختزالها بتنظيم إرهابي أسود وتصدير نموذج داعش الإرهابي للعالم على أنه الخلافة الإسلامية،  فلم يرد مرة ذكر كلمة خلافة في الصحافة الغربية (والعربية) إلا ورافقها جريمة حرق أو قتل أو صلب أو رجم أو تفجير، مما وأد الجانب المشرق لهذه الكلمة واستبدله بجانب لا يقل سواداً عن نواياههم، عل الرغم من أن القاصي والداني يعلمان أن داعش هو تنظيم إرهابي لا يمت لا للإسلام ولا لأي دين بِصلة، لكنهم انتهزوا الفرصة وسخّروها لضرب مفاهيم ثقافية ودينية.

هذا مجرد مثال فقط وهناك عشرات الأمثلة الأخرى التي نقرأها يومياً في الصحف الأجنبية، فهناك مثلاً مفهوم "الجهاد"، فبمرور الأيام قامت الصحافة السوداء بإلصاق كلمة جهادي  (Jihadist) إلى كل من استساغ القتل والدموية، فمصطلح الجهاديين أصبح رمزاً للتطرف والإرهاب في كل الصحف الأجنبية بعد أن كان رأس سنام الإسلام في سلم العبادات، وأنا على المستوى الشخصي لم أقرأ قط كلمة "جهاد" في سياق إيجابي، على العكس كلما وردت كلمة جهاد أو جهاديون يتهيأ القارئ بشكل تلقائي لسماع خبر دموي أسود، وهنا تحديداً يكمن مدى نجاح الآلة الإعلامية في التأثير على وعي القارئ بل وقولبة موقفه اتجاه مصطلحات كانت بالأمس القريب من الركائز القوية في عقيدته.

إذاً لا مفر من الاعتراف أننا في مواجهة إمبراطورية إعلامية عالمية تعمل على تلقين شعوبنا ما تريد، وتنسف مفاهيم وتؤسس لمفاهيم أخرى حسبما تقتضي مصالحها، فعلى سبيل المثال، لم نعد نسمع مصطلح "الوطن العربي" في الإعلام الغربي ولا العربي وتم استبداله بمصطلحات مثل "الشرق الأوسط" و"شمال إفريقيا" وربما حصل ذلك تماشياً مع الكيان الصهيوني أو لإضعاف الهوية العربية أو لأسباب أخرى نجهلها، وهذا ما يقال له Lexical choices manipulation أي التلاعب باستخدام المفردات لتسليط الضوء على جانب معين وحجبه عن جانب آخر. وبالتالي فإن كل ما يتم تداوله في الإعلام هو ليس تغطية لحدث معين، بل تغليف لسياسة محددة وتكريس لإيديولوجيا بعينها ومشاركة فعلية في صناعة مواقف القرّاء، وإنه لمن السذاجة أن نظن -مجرد ظن- أن الإعلام هو مرآة تعكس الواقع وتنقل الحقائق; إنه مجرد أداة تنقل فقط ما يتوافق مع السياسات العالمية، ففي إمبراطورية الإعلام لا يوجد إعلام صادق وإعلام كاذب، بل يوجد إعلام أتقن اللعبة وإعلام ما يزال يلعب بطريقة بدائية مكشوفة.

كلمات مفتاحية