لبنان إذ يدفع الثمن.. حكومة الشرق الزاحفة نحو الغرب  

2021.09.17 | 06:39 دمشق

lebanon-2-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

ولبشّار الأسد حصّته أيضاً. ثمة مفارقات تنتج عن مصادفة أو عن فعل متعمّد بفعل الترابط بين الأحداث. يمكن للحكومة اللبنانية الجديدة التي تم تشكيلها الأسبوع الفائت، أن تكون مختبراً حقيقياً لمثل هذه المفارقات، بدءاً من سياق ولادتها وما رافقها من تطورات داخلية وخارجية، وصولاً إلى رمزيات متعددة لا بد من التوقف عندها من دون الحسم إذا ما كانت أمراً منسوجاً ومرتّباً أم أنها فعلاً من عوامل الصدف. 

تشكّلت الحكومة بعد سلسلة تطورات دولية وإقليمية، بدأت مع إعلان الأمين العام لحزب الله؛ حسن نصر الله عن استقدام النفط الإيراني إلى لبنان. تلاها سريعاً موقف أميركي وُضع في خانة الردّ المباشر، ويسمح للبنان باستيراد الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر سوريا مع منحه استثناءات من قانون قيصر. 

لم تكن الخطوة بسيطة، إنما تنمّ عن تحول كبير في المجريات السياسية التي سارع بشار الأسد إلى استمالتها لصالحه، فانتهز الفرصة للإيحاء بأنه حقق انتصاراً سياسياً، وأنه أصبح على مشارف استعادة شرعيته الدولية والعربية، ونجح في تعويم نفسه، كذلك حقق الاختراق الأول والأمثل لمندرجات قانون قيصر. استقبل النظام السوري وفداً وزارياً لبنانياً، وبعدها شارك في الاجتماع الوزاري بالأردن، وأصبح في موقع وضع الشروط وفرضها للسماح بتمرير الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى الأراضي اللبنانية مقابل الحصول على مردود مالي أو كهربائي، بالإضافة إلى إصلاح أنابيب الغاز وشبكة الكهرباء.

إقليمياً أكثر، عُقدت قمّة بغداد، نجحت فرنسا في إعادة نسج وترتيب علاقتها مع إيران، كما نجحت باريس في عقد اتفاقيات استثمارية مع العراق لا سيما لشركة توتال بقيمة 27 مليار دولار، مثل هذا الاتفاق يحتاج إلى موافقتين أميركية وإيرانية، ويحتاج إلى حماية إيرانية للمصالح الفرنسية في العراق برعاية الحشد الشعبي. هذا ما حتّم على باريس التقرب من طهران أكثر، وتسليفها مزيدا من المواقف، أولها الحماسة لتجديد الاتفاق النووي، وثانيها تمرير الانفتاح على النظام السوري، وثالثها حفظ الحصة الإيرانية في التركيبة الحكومية اللبنانية، والتي تثبت تعزيز النفوذ الإيراني.

التقطت طهران الفرصة، والتي تجلّت أكثر في الاتصال بين الرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والإيراني إبراهيم رئيسي، أصدر الرئيسان بياناً فيه غرابة ديبلوماسية لا مثيل لها خلال مقاربة الملف اللبناني، وهو الدعوة لضرورة تشكيل حكومة قوية بالتعاون مع حزب الله، ارتضت باريس أن تساوي حزب الله بدولتين كبيرتين، مع ما يعنيه ذلك من تهميش للدولة اللبنانية. هذا البيان فتح الطريق أكثر أمام ولادة الحكومة اللبنانية، التي ستشهد صراعاً هوياتياً في توجهات مكوناتها بين الشرق والغرب، هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون، فستكون حكومة تكريس نظرية "تحالف الأقليات" وهي النقطة المركزية التي يجتمع عليها الشرق والغرب.

طبعاً لا ينفصل مسار تشكيل الحكومة اللبنانية عن مسارات النفط والغاز، خصوصاً أن المنطقة تمرّ في تحولات كثيرة، أبرزها الانسحاب الأميركي من المنطقة، فتح خطوط التواصل والتصالح بين القوى التي كانت متخاصمة، من خلال المفاوضات بين مصر والإمارات من جهة مع تركيا وقطر من جهة أخرى. وهنا بالنظر إلى خط الغاز المصري والذي له متفرع نحو إسرائيل، ويعبر الأردن وصولاً إلى سوريا ولبنان فسيكون قابلاً للوصول إلى الأراضي التركية أيضاً ومنها إلى أوروبا، وفي هذه الخانة يوضع التفاوض المرتقب بين الأتراك والنظام السوري للمرحلة المقبلة.

بناء على هذه المتغيرات كلها ولدت الحكومة اللبنانية، والتي سيستفيد منها بشار الأسد موضوعياً أيضاً كما معنوياً، فإلى جانب محاولاته الاستفادة في ملفات النفط والكهرباء والإستثناءات من قانون قيصر، سيحاول الاستفادة سياسياً من خلال القول إنه عاد مؤثراً في لبنان، أولاً من خلال استقباله الوفود اللبنانية، وثانياً من خلال القول إن لديه حصة كبيرة في هذه الحكومة، تتجاوز الخمسة وزراء. بالتدقيق في الوزراء مثلاً وبمعزل عن أسمائهم وهم في غاية الولاء إلى الأسد، ثمة أسماء أخرى هي التي تشير إلى المفارقات أو الصدف، فمثلاً نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، والمحسوب على الحزب السوري القومي الإجتماعي أي أكثر الأحزاب ولاءاً لدمشق، هو عضو في البنك الدولي، يتمتع بعلاقات واسعة وقوية جداً، أميركية وفرنسية. وهنا تكمن المفارقة، "القومي السوري" ذو التوجه المالي الغربي المالي، فهل ذلك نتاج لصدفة معينة، أم أنه سياق مرسوم بدقّة سيجعل "القومي السوري" هو الذي يرأس لجنة التفاوض مع صندوق النقد الدولي؟

إنها حكومة "الشرق" الساعي إلى "التغرّب"، وهو ثمن جديد سيدفعه السوريون واللبنانيون معاً هذه المرّة، هو ثمن إعادة تعويم بشار الأسد في البلدين، وسقوط الأحلام بأمل لغد جديد، وسقوط الرهانات على قوى وجماعات وحلفاء. دفع السوريون ثمن مطالبتهم بالحرية، فخذلهم العالم كله لحسابات الأقليات وخطوط النفط، وحالياً يدفع اللبنانيون ثمنين وليس ثمناً واحداً، الثمن الأول هو نتاج هذه السياسات الدولية والإقليمية كلها، والثمن الثاني المضاعف هو الذل والهوان اللذان يعيشهما الشعب من جراء الأزمات المتلاحقة، إذ خسروا أموالهم وأعمالهم ودولتهم وكل امتيازاتهم، وغرقوا في طوابير الذل على أبواب المصارف وأمام محطات المحروقات والصيدليات والمستشفيات ولهذا الثمن سببان، أولاً دفع تكاليف التورط بالحرب السورية، وثانياً دفع ثمن النزعة التفوقية اللبنانوية على السوريين والفلسطينيين وغيرهم من العرب والعجم والأفارقة، فأصيبوا بأفدح مما أنزلوه بالآخرين.