لا ترامب يريد حرباً ولا خامنئي.. سليماني راح فرق عملة

2020.01.05 | 21:37 دمشق

2020-01-04t072618z_1692502781_rc2v8e9tt7xy_rtrmadp_3_iraq-security-funeral.jpeg
+A
حجم الخط
-A

كل ما في الأمر أن الإيرانيين أخطؤوا، هذه المرة، في حساباتهم، فدفعوا ثمناً باهظاً، وقد بدؤوا فوراً العمل على احتواء الصراع من خلال الرسائل التي يتبادلونها مع الأميركيين بواسطة السفارة السويسرية في طهران.

كانت حسابات إيران، من إطلاق تحرشات الميليشيات التابعة لها بمواقع أميركية، بما في ذلك السفارة، تقوم على استجرار ردود أفعال أميركية من المستوى نفسه، بهدف تمييع حركة الانتفاضة الشعبية المناوئة للهيمنة الإيرانية على العراق. لقد تعامل خامنئي (أم علينا أن نقول سليماني) وكأن الإدارة الأميركية لا همَّ لها غير إنقاذ النفوذ الإيراني المتهاوي في العراق. الواقع أن توقع ردود فعل أميركية "منضبطة" هو استعادة لمذهب حزب الله اللبناني في علاقته بإسرائيل القائمة على "قواعد اشتباك" محددة لا تجعل الذئب يموت جوعاً ولا الغنم يفنى. معادلة يكسب منها الطرفان معاً ولا يسمح بخروجها عن السيطرة.

لم يحسب سليماني حساباً لكون ترامب من النوع الذي لا يمكن توقع قراراته أو ردود فعله مسبقاً، وأن القوة التي يمتلكها بوصفه رئيساً للدولة الأعظم، تفتح شهيته لخلق وقائع جديدة يمكن الاستفادة منها في معركته المستمرة مع مؤسسة الحكم الأميركية، وفي الانتخابات الرئاسية القادمة، بعد أشهر، التي يريد دخولها للحصول على ولاية جديدة.

كان لافتاً، في هذا الإطار، أن ترامب اتجه، فور إعطائه الأمر بتنفيذ عملية اغتيال سليماني، إلى إحدى كنائس المذهب الإنجيلي ليخاطب الجمهور المجتمع هناك لأكثر من ساعة. جمهور يتوق إلى عودة المسيح المنتظر ليخوض معركة أرمجدون ضد الشر في سيناريو القيامة. وهل من هدية أجمل لهذا الجمهور المتعصب من قتل كبير مجرمي مذهب "المهدي المنتظر" ليشكل ذلك سبباً لاندلاع معركة القيامة؟ انتشرت صورة على وسائل التواصل الاجتماعي لقاسم سليماني قتيلاً يحتضنه من قيل إنه علي بن أبي طالب، وكأنه الحسين الشهيد في حضن أبيه. بالمقابل نشرت صحف غربية صوراً دينية لقيامة المسيح ولمعركة أرمجدون. يتشابه الأسلوب الفني في مجموعتي الصور بطريقة غريبة، وكأننا أمام حق في مواجهة حق، لا حقاً في مواجهة باطل كما يعتقد أنصار الجبهتين.

كان لافتاً، في هذا الإطار، أن ترامب اتجه، فور إعطائه الأمر بتنفيذ عملية اغتيال سليماني، إلى إحدى كنائس المذهب الإنجيلي ليخاطب الجمهور المجتمع هناك لأكثر من ساعة

كأننا نستعيد أجواء "صدام الحضارات" لصموئيل هنتغتون، في همروجة إعلامية تبشر بصراعات قيامية تليق بمقتل قاسم سليماني أو "الحسين الجديد" أو "غيفارا الإيراني" بحسب اليسار الغبي.

كان سليماني، بأحد المعاني، ضحية التضخيم الإعلامي المتعمد لدوره "الغامض"! فـ"الرجل – الشبح" كما كان يطلق عليه كان أبعد ما يكون عن هذا الوصف، يكاد أن يكون "نجم إنستغرام" بحسب إحدى الصحف التركية. تظهر صوره الكثيرة على مختلف جبهات القتال والمواقع في لبنان وسوريا والعراق، يشرب الشاي مع "المجاهدين" الذين يملؤون الشوارع دماً ومجازر حيثما حلوا وحل. يرتدي البزة العسكرية وعلى وجهه ابتسامة حيية. حركته من بيروت حيث التقى بحسن نصر الله، إلى دمشق، إلى مطار بغداد حيث سيقتل مع مرافقيه، كانت مكشوفة تنم عن ثقة مفرطة بطيبة نوايا "الاستكبار العالمي" الغاشم المتمثل بدونالد ترامب. وسواء وصلت المعلومات الاستخبارية حول وصوله إلى مطار بغداد من عملاء سريين "من الداخل"، أو من خلال تكنولوجيا الرصد والتتبع المتطورة، فهي ضربة كبيرة ومهينة لهيبة القيادة الإيرانية أمام أنصارها. فهل سيرغم هذا الإيرانيين على الرد بالقسوة ذاتها على الأميركيين؟ تقول الردود التي تم تسجيلها البارحة أنها ستكون أقل من عادية مع حرص على عدم جرح أصبع أي أميركي. فإيران أبعد ما تكون عن الاستعداد لخوض صراع خاسر ضد الأميركيين في هذا الوقت المأزوم.

أما ترامب فقد حقق بهذه العملية النوعية نقطة كبيرة لصالحه في أنظار الإنجيليين الذين يشكلون جزءاً مهماً من قاعدته الانتخابية. ولن يكون بحاجة إلى ورطة عسكرية مفتوحة قد تكلفه مقتل أو جرح جنود أميركيين مهما كان عددهم محدوداً.

نحن لا نعرف بصورة يقينية مدى أهمية سليماني داخل النخبة الحاكمة، إلا من خلال الصورة التي صدرتها لنا إيران نفسها

من المرجح إذن أن يتم احتواء شرارة الصراع في حدوده الحالية، فلا معارك قيامية ولا مهدياً في مواجهة المسيح. لقد ذهب سليماني "فرق عملة" كما نقول، ولكن الرجل لم يكن مجرد "فراطة" يمكن استبدالها بسهولة. نحن لا نعرف بصورة يقينية مدى أهمية سليماني داخل النخبة الحاكمة، إلا من خلال الصورة التي صدرتها لنا إيران نفسها بهدف استخدامه كفزاعة لإخافة الخصوم في الحروب الإقليمية التي كان يقودها. يمكننا القول، وفقاً لهذه الصورة، أن سليماني أهم بكثير من المرشد علي خامنئي نفسه حين يتعلق الأمر بالخطط الإمبراطورية للنخبة الحاكمة. فهو المخطط والمقرر والمنفذ وموزع الأدوار في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين جميعاً. وإن كان المرشد هو مركز القرار السياسي الأعلى. فالقرار، في الشؤون الإقليمية، يأتي كنتيجة لجهود سليماني وليس من فوقها.

بهذا المعنى ربما من الصعب استبداله بقائد جديد يمكنه أن يملأ الفراغ الناجم عن اغتياله.

بالنسبة لنا، نحن السوريين، قتل مجرم أوغل في دم أطفالنا وهجر أهلنا طوال سنوات. على أمل أن يتبعه زملاؤه الآخرون من القتلة السفاحين. ثم إنه لم يقتل في بيته (ترى هل لديه بيت؟) وبلده، بل في أحد مسارح جرائمه.