كي لا يكبر فينا الجنرال

2023.04.04 | 06:52 دمشق

اتسم أيها الجنرال
+A
حجم الخط
-A

مسلسل (ابتسم أيها الجنرال)، العمل الفني الذي لم يبلغ المعروض منه نصفه بعد، بدأ منذ حلقاته الأولى بإثارة جدل واسع خاصة بين صفوف السوريين بدرجة أولى، وبدرجات تالية لمتابعين للحالة السورية وسواهم ممن يرون في العمل حالة تتجاوز الجغرافيا السورية لتشمل منظومات مشابهة. حالة الجدل السوري تجاوزت بأشواط بعيدة كل ما أثارته سابقاً كل الإنتاجات الدرامية في بعض المتميز منها عبر عقود، والتي كانت تبقى في حدودها الجغرافية، وغالباً لا تتجاوز مناحي اجتماعية خاصة ببيئة معينة، أو التماسّ مع معتقدات، من دون أن يصعد الإنتاج الدرامي السابق من انتقادات سطحية لظواهر من فعل الساسة إلى مساس حقيقي بسقوفها، فيما العمل الجديد تجاوز كل الخطوط ما فوق الحمراء لمنظومات لم تزل قائمة، ليكون رائداً وسبّاقاً بجرأة طرحه وبمحاولته كشف بعض ما يجري في دولة أمنية ذهبت إلى آخر الشوط لتغدو المثال الصارخ عن (الدولة المتوحشة)، وعلى الرغم من محاولات النص والإخراج التمترس خلف فانتازيا المسميات والتغاضي عن ذكر الزمان والمكان، فإنهما يعودان (النص والإخراج) لما هو أكثر من التحديد، بل و(التشريب بالملعقة) كما مقولة المثل السوري الدارج، من خلال أحداث يذكرها كثير من السوريين، باختلاف في درجات المعرفة أو متابعة التفاصيل، عبر مسيرة العائلة الممتدة لأكثر من نصف قرن من حكم ذاقوا مراراته وترهيبه وإرهابه وإجرامه، وكأنهما (النص والإخراج)، وعلى نحو مقصود، يهربان من المسميات والتحديد ظاهراً ليعودا بشكل أكثر ظهوراً، ولتغدو الإشارة أوضح من العبارة.

النقاط الأساسية التي تركز أحداث المسلسل عليها سرعان ما تأخذ المتابع إلى أحداث عايش بعضها، وفي أدنى الحدود تناهت إليه، وإن لم يربط ربطاً كافياً مسبباتها بتوابعها، وعلاقة شخوصها بتحريك الأحداث، أو علاقة بعض الشخصيات بصنع أحداث لاحقة أو بنهاياتهم الغامضة، والمغمض عنها وعليها، بفعل ما تقتضيه ضرورات أمنية في عقول راسمي الإرادة ضمن إدارات المنظومة الإجرامية لدولة متوحشة، والتي تضيق غالباً دوائرها المتعددة لتغدو دائرة مغلقة لزمرة عائلية تجيّر الدولة لسلطتها من أجل بقائها رأساً لكل السلطات، مكرسة الدكتاتورية في أشنع صورها وأبشعها إجراماً. تلك النقاط الأساسية التي ارتكزت أحداث المسلسل عليها، اختياراً من فيض أحداث وجرائم لا يحتمل عمل فني واحد مجرد الإضاءة عليها لكثرتها عبر تاريخ يمتد لأكثر من نصف قرن من حكم عائلة فرضت مافيويتها على دولة، ستغدو (النقاط الارتكازية القليلة والعائلية) مثار جدل أيضاً، حيث يرى فيها منتقدون للعمل تقليلاً من شناعة الجرائم وبواعث ارتكابها، فيما ينظر إليها معجبون على أنها مفاتيح فنية للولوج إلى دواخل المنظومة الحاكمة لكشف عوالمها وفضح جرائمها.

سيتعب كثيراً المتابع الذي يحاول ربط أية حادثة من أحداث المسلسل بأسماء فاعليها الحقيقيين، أو بتقصي تفاصيلها ومحاولة تتبع مجريات الأحداث وتاريخها وزمنها وشخوصها الحقيقيين

سيتعب كثيراً المتابع الذي يحاول ربط أية حادثة من أحداث المسلسل بأسماء فاعليها الحقيقيين، أو بتقصي تفاصيلها ومحاولة تتبع مجريات الأحداث وتاريخها وزمنها وشخوصها الحقيقيين، ومقدار انطباق الحقيقة على ما يقدمه المسلسل. السبب بسيط جداً، فالمسلسل في المبتدى والمنتهى عمل فني درامي، وليس سلسلة ثوثيقية أو تسجيلية للأحداث والأشخاص، وإن لعب على تلك الأوتار للوصول، فنياً وفكرياً، لما يريده من كشف وفضح وإثارة أفكار. ستختلط أيضاً الاستنتاجات على من يحاول إيجاد مطابقة شخصيات المسلسل على واقع يعرفه، فهو تارة أمام صراع الأخوين (حافظ ورفعت) في ثمانينات القرن الماضي، وتارة ثانية أمام أحداث في العقد الأول من الألفية الجديدة وعودة صراع مبطن لم يأخذ بعد شكله العسكري الظاهر بين (بشار وماهر)، وتارة ثالثة، بتأخير زمني، أمام مواقف رافضة لزواج الأخت (بشرى) ممن تريد كما حدث من شقيقها (باسل) في التسعينات وما تبعه من قبول لاحق من العائلة بعد موته وإن على مضض استجابةً لأمر واقع فرضته، وما ينطبق على العائلة من خلط، مقصود فنياً، للشخصيات والأحداث والزمن، ينسحب على مجمل الشخصيات الصانعة والتابعة أمنياً، وتحديد الإطارين الزماني والمكاني للوقائع. هذه التركيبة الدرامية وإن كانت في صالح العمل فنيّاً، إلا أنها أوقعت غير قليل من المتابعين في دوامات البحث عما في ذاكرتهم القريبة والبعيدة من أحداث يجدونها تختلف عما يرونه في المسلسل، لكنهم في الوقت ذاته يعودون للسير مع أحداثه وكشفه لمدى التوحش والإجرام الذي تقوم عليه المنظومة الحاكمة برمتها، ولعل ذلك ما يرغبه صانعو المسلسل من غير الذهاب إلى التوثيق في الشخصيات والأحداث أو التسجيل لوقائع.

 من الطبيعي الاختلاف مع المؤلف في طريقة تناوله واختياراته، ولكن من غير الممكن أبداً محاسبته على الإخلال بتفاصيل الأحداث أو أفعال الأشخاص وأدوارهم، لأن ذلك قسر لإدخال عمل فني درامي في تأطيرات التوثيق.

ثمة أخطاء وثغرات في المسلسل وعلى الصعد كلها في البنية والحبكة والإخراج والإنتاج تؤخذ على عمل يطمح لريادة فنية ذات سوية عالية، وثمة نقاط ضعف يمكن تبريرها، بحكم واقع اضطراري، كأداء بعض الشخصيات والتعامل مع هواة وأصحاب تجارب أولى ضمن إنتاج  مضطر للعمل في غير بيئته، وسوى ذلك من حيثيات تزيد الجدل حول نواقص وسلبيات في عمل تجاوز المقصات الرقابية والخوف من مقاصل الرقاب، لكن ما يمكن النظر إليه بإيجابية أن الأعمال الفنية الناجحة هي التي تكون إشكالية وتثير الجدال فيكون تأثيرها أعمق من أعمال فنية عالية السوية ترضي وتقنع وتؤثر في الوجدان قليلاً ثم تمضي عابرة من غير إحداث أثر حقيقي في الوعي والموقف المؤثر تجاه قضية كبرى ومعاشة. ولعل تصاعد أرقام المشاهدة التي باتت مليونية منذ الأيام الأولى لعرض المسلسل، على الرغم من ظروف الشتات السوري وواقع الداخل المزري، أكبر دليل على ما يحظى به العمل من متابعة واهتمام، جعلت مناصري النظام ومن أوجعهم كشف بواطن المنظومة، في حالات اضطراب وتخبط ليس بعيداً عنها رسائل التخوين والوعيد.

قد يزعم  فريق بأن العمل الفني، على ما فيه من ثغرات، يفتح عصراً جديداً وآفاقاً للتحليق الفني في آفاق حرية تفتحت، للأسف، أمام سربان مهاجرة ضاقت بحرية كلماتها وتعابيرها الأوطان المحكومة بالأغلال والقهر والقتل. وقد يزعم آخرون أن العمل لم يرتق، على الرغم من ميزانيته المعقولة، لتحقيق معايير فنية متميزة  ضرورية لمن يفكرون بتطلعات ريادية.

من حق كل طرف أن يتبنى مزاعمه، وأن يدافع عن أفكاره ويقدم تفنيداته، من غير أن يتحول الزاعم إلى (زعيم)، ومن غير أن تنمو في دواخل الزاعمين تلك البذور التي خلفتها في النفوس، وعبر أكثر من جيل، مراحل حكم الجنرالات.

 نعم.. في فضاء حرية مرتجاة ما زلنا نحبو صوبها، من حق كلنا أن نعتقد ونعبر، ومن حق بعضنا على كلنا أن نقبل اعتقاده وتعبيره، ومن حق كلنا على بعضنا أن لا تكون لأحد كلمة فصل ما دمنا في إطار حريات.

والأهم هو حقُّ كلنا على كلنا بأن لا يكون بيننا من يَفْرضون، كي لا يكبر فينا الجنرال.