تتحدث تركيا عن عملية برية موسعة في شمال شرقي سوريا تُكمل ما بدأته عملية "المخلب-السيف"، ويبدو الرئيس رجب طيب أردوغان مصمماً أكثر من أي وقت سابق على إزالة كل العراقيل أمام طريق العملية المحتملة، لكن ما نريد أن نتناوله هنا أبعادها الداخلية بالدرجة الأولى.
الحديث عن العمل العسكري كان له صدى داخلي، سواء من تأييد أو رماد أو تنديد بحسب اختلاف الأحزاب الفاعلة في الساحة التركية، ومن المهم أن نعلم أن أكبر حزبين معارضين يعارضان هذا النوع من العمليات لا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات في تركيا، والحزبان هما؛ الشعب الجمهوري، والشعوب الديمقراطي.
حزب الشعب الجمهوري أكبر حزب معارض ويتمتع بشريحة انتخابية رصينة تتراوح بين 26 إلى 29%، وقد أعلن مؤخراً أنه يدعم حرب القوات المسلحة ضد الإرهاب لكن "من يريد تحصيل الأصوات عبر هذا الحراك على حساب جنودنا؛ فهذا ليس من السياسة بشيء"، وفق تصريحات المتحدث باسم الحزب، فائق أوزتراك.
أما حزب الشعوب الديمقراطي الذي يتمتع بشريحة انتخابية جلها من المواطنين الأكراد وتتراوح بين 10 - 11% فإنه ندد بشكل صريح بالعملية، وهو يعارض أي عملية عسكرية من هذا النوع في شمالي سوريا والعراق على حد سواء.
إضافة لما سبق، يلاحظ وجود صمت أو عبارات دعم خجولة لهذه العملية من قبل الأحزاب المعارضة الأخرى سواء الموجودة ضمن الطاولة السداسية بجانب الشعب الجمهوري أو خارجها، وهذا يشير ربما إلى أن هذه الأحزاب لا تنظر إلى تصريحات الحكومة بدافع قومي يرى تهديدات على الحدود، بقدر ما ينظر إليها بشكل متحفظ أو كأنها تصريحات ملغومة يريد أن يحسب لها ألف حساب.
لكن الحكومة التركية تؤكد أنه سواء الغارات الجوية التي حصلت قبل أسبوع أو العملية العسكرية الموسعة التي قد تكون في المستقبل القريب، إنما هي "ضرورة" لحماية الأمن القومي والحدود من الهجمات والتهديدات الإرهابية، لا سيما بعد تفجير تقسيم بمدينة إسطنبول منتصف تشرين الثاني والذي خلف 6 قتلى وعشرات الجرحى.
وبالمناسبة، فإن هذا الخلاف بين الأحزاب حول العمليات العسكرية ليس وليد اللحظة، وهو ما يؤكد أن الأمر لا يتعلق بشبهة تزامنه مع اقتراب موعد الانتخابات، ففي 2021 رفض حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي تمديد مهمة القوات التركية في سوريا والعراق، وصوّتوا بـ"لا" ضد القرار داخل البرلمان، بينما صوت حزب الجيد حليف الشعب الجمهوري بـ"نعم"، داعماً بذلك الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" وحليفه "الحركة القومية".
وفي منتصف 2022، الأمر نفسه بالتفاصيل نفسها تكرر مع التصويت على مذكّرة تمديد مهمة القوات التركية في ليبيا، فلماذا إذن؟ هل مخاوف انعكاس ذلك بأثر إيجابي على الانتخابات لصالح الحزب الحاكم هو السبب أيضاً؟
لا طبعاً الأمر لا يتعلق بقضية الانتخابات فقط، بل هو أوسع من هذه الصورة الضيقة، ويحتاج شرحاً مسهباً، لكن يكفي الإشارة إلى أن حزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة)، يسعى بشكل صريح لكسب ود حزب الشعوب الديمقراطي (ذي الغالبية الكردية)، ضمن معركة تحصيل الأصوات استعداداً لمعركة ستكون حامية في 2023.
انعكاس العملية على السوريين
من جانب آخر، وبعيداً عن التجاذبات بين الأحزاب السياسية، كيف يمكن أن تنعكس العملية البرية المحتملة على السوريين داخل تركيا أو خارجها؟
1- التشجيع على العودة الطوعية
تقول الحكومة التركية إن أي "تطهير" جديد للأراضي السورية من تنظيمات قسد ووحدات الحماية، سيسمح بعودة آلاف السوريين إلى مناطقهم التي هُجّروا منها. وبالتالي فإن العملية العسكرية بحال بدأت وأسفرت عن نتائج بالنسبة لأنقرة بمعنى أنها استطاعت السيطرة على عين العرب ومنبج وتل رفعت، فإنها سترى في ذلك دافعاً لارتفاع عدد "العائدين طوعياً" إلى سوريا من تركيا، وهذا قد جرى في مثل هذه الأيام من عام 2019 بعد عملية "نبع السلام" وتحرير مناطق مثل رأس العين وتل أبيض والمساحة الكبيرة التي دخلت في رصيد القوات التركية والمعارضة السورية التابعة لها.
2- الوضع في إدلب
هناك مخاوف في الحقيقة من انعكاس المفاوضات والتفاهمات الحاصلة على صعيد دولي استعداداً لشن هذه العملية، حيث إن أنقرة تتحدث مع الأميركيين والروس على حد سواء، ومن المحتمل أن يكون لهذه التفاهمات انعكاس أو أن تترك أثراً ربما على المدى القريب والمتوسط على طبيعة الوضع في إدلب.
بمعنى آخر، ما يتردد حول أن تركيا اشترطت تسليم مناطق قسد لقوات النظام السوري كشرط من أجل عدم شن عمل عسكري؛ هو أمر -إن نجح- فإن موسكو ستطلب تطبيقه في إدلب كذلك، فهي تنظر لجماعات المعارضة كما تنظر تركيا لتنظيمات قسد ورديفتها.
ربما يكون اشتراط أنقرة ذلك تعجيزياً "مقصوداً"، حيث إنّ القوات الأميركية لن تسمح بسيطرة قوات الأسد على المناطق التي بقيت واستثمرت فيها لسنين، الأمر ليس بهذه البساطة، لكن أعتقد أن مجرد طرح هذه الفكرة سيكون له انعكاس على شرعية وجود القوات الموجودة في إدلب على اختلافها، في ظل "شرعية" قوات الأسد، لا سيما مع التصريحات الدافئة المقبلة من أنقرة، والتي تحضّر لعملية تطبيع رسمية مع النظام بدمشق.
3- السوريون في تركيا
أعتقد أن العملية العسكرية في حال بدأت أن تجلب معها مزيجاً من الحملات العنصرية المدفوعة بالقومية، بمعنى أن الجنود الأتراك يقاتلون في سوريا بينما السوريون هنا في تركيا يمرحون…، وهذا بالطبع شوهد في العمليات السابقة، مع العلم أن القوات التركية يقاتل إلى جانبها آلاف من عناصر الجيش الوطني المعارض، لكن الأمر بحاجة إلى توعية إعلامية أكبر.
من جهة أخرى، تزامن العملية العسكرية المحتملة مع موعد الانتخابات القريب وكذلك مع التصريحات "التطبيعية" مع النظام السوري، كلها حسب رأيي ناقوس خطر على السوريين الموجودين في تركيا، على صعيد الاستعداد للتكيف مع الوضع الجديد القائم وما سيترتب عليه من موضعة جديدة يمكن أن يتقرر من خلالها مصيرهم، لكن بالطبع لن يكون هذا الأمر في يوم وليلة، بل سيبدأ بالوضوح بشكل أكبر عقب انتخابات حزيران 2023 المقبلة.