icon
التغطية الحية

كيف أبدع بيكاسو وبراك التكعيبية؟

2023.03.31 | 16:35 دمشق

تكعيبي
+A
حجم الخط
-A

مما لا شك فيه أن التكعيبية تعدّ من أبرز المدارس الفنية في التشكيل الحديث على الإطلاق، وأكثرها ديمومة أيضا، إذ ما تزال تمارس حتى الآن من قبل الكثير من الفنانين المعاصرين بصيغ متباينة وأساليب متعددة.

 ويمكن لأي فنان الاستلهام من التكعيبية لما يخدم لغته التشكيلية التي يريد من خلالها التعبير عن ذاته أو عن أفكاره. وذلك من خلال اختزال الأشكال في الطبيعة إلى صيغها البدائية من مخروط ومكعب وأسطوانة، فتمنح الفنان خيارات لانهائية للتشكيل والتعبير.

كيف بدأت التكعيبية وتبلورت أفكارها لتعطينا هذه النتائج المدهشة؟

يعود أصل التسمية إلى عام 1908 للناقد الفني لويس فوكسيل الذي كتب عن أعمال الفنان جورج براك، قائلاً: "إن السيد براك يزدري الشكل ويحول كل ما في الوجود: المواقع، الوجوه والبيوت إلى ترسبات هندسية وإلى مكعبات".

هذا الأسلوب الذي تدخل فيه المكعبات في التأليف لم يعد يأبه للقواعد القديمة، فلم يعد هناك خط أفق ولا نقطة تلاشي تلتقي فيها الخطوط، وبدلا من أن يسمح لنا تكوين اللوحة بالغوص بعيدا نرى عناصر العمل الفني في التكعيبية تلتصق بعضها ببعض بتدرج غير منتظم ظاهريا، ونرى أوراق الأشجار تتصلب كما الجذوع وتفقد البيوت أبوابها ونوافذها لتستحيل إلى كتل صماء، فإذا كانت اللوحة فيما مضى تدعونا إلى الإبحار في عمق الأفق في المشاهد الطبيعية، فإننا في التكعيبية لا نجد سوى كتلا وخطوطا في بعد واحد تستوقفنا وتدهشنا.

إن رفض مفهوم المنظور والمجال البصري لم يكن وليد الصدفة على أي حال، إذ حاول العديد من الفنانين كسره. فنرى مثلا الفنان أندريه ديران يحاول عبثا إضفاء الشكل الهندسي على أعماله، ولكنه لم يوفق إلى التخلص بشكل كامل من مفاهيم الفراغ والبعد الثالث، حتى أتى الفنانان جورج براك وبابلو بيكاسو اللذان استطاعا قطع صلتهما بهذه المفاهيم بشكل حاسم عام 1908.

ديران
لوحة للفنان اندريه ديران

لم يكن بيكاسو في ذلك الوقت قد تجاوز الثلاثين من عمره، هذا الفنان الإسباني الشاب الذي ظهرت موهبته مبكرا ولفت إليه الأنظار منذ طفولتهن ظل يتنقل ما بين باريس وبرشلونة حتى استقر في باريس عام 1905 تقريبا، وفي ذلك الوقت لم يكن قد تحرر كليا من مفاهيم الدراسة الأكاديمية.

ونستطيع أن نميز أعماله في فترات مختلفة، ففي إقامته الأولى في باريس تأثر بيكاسو بأعمال الفنان الفرنسي هنري تولوز لوتريك ثم ما لبث أن دشن ما يسمى بالفترة الزرقاء (1901– 1904) حيث طغى على أعماله تدرجات اللون الأزرق القاتم والبارد، وأما المضامين فتناقش الفقر والعوز والتشرد فهي أعمال تبعث على الحزن والكآبة، ثم انتقل إلى مرحلة جديدة سميت بالمرحلة الوردية (1905– 1907) حيث استبدل اللون الأزرق بألوان زاهية طغى عليها اللون الوردي وكانت المواضيع مستقاة من حياة المهرجين ولاعبي السيرك والبهاليل.

ورغم تعدد المواضيع والمضامين فإن أسلوب الفنان لم يتغير كثيرا. وبعد أن استقر نهائيا في باريس وسكن في شارع مونمارتر أتيح له الاحتكاك بشكل مباشر مع أبرز الفنانين في ذلك الوقت وما لبث أن بدأ أسلوبه في التصوير يتغير بعمق في أواخر عام 1906، حيث بدأت الخطوط تفقد ليونتها ورقتها فأصبحت أكثر حدة وأكثر تصلبا فنراها تتقاطع بقسوة محدثة زوايا وتشكيلات صلبة.

في تلك الفترة أنتج لوحته الشهيرة (آنسات أفنيون) والتي كانت نقطة فارقة ومنغطفاً ليست في مسيرته الفنية الخاصة وحسب، بل في تطور الفن التشكيلي الحديث بحسب رأي النقاد. ولا يخفى على أحد أن الفنان كان متأثرا إلى حد كبير بالأقنعة الأفريقية التي كانت تستجلب من المستعمرات لتعرض في المتاحف حيث أدهشته البساطة والبدائية والقوة التعبيرية الفائقة التي تحملها معها.

لوحة
لوحة آنسات أفنيون للفنان الاسباني بابلو بيكاسو

في هذا العمل نرى الألوان تتصادم كما تتصادم الخطوط، فقد طغى فيها اللونان الزهري وأزرق الباهت وهما لونان متقابلان في دائرة الألوان، والخطوط تلتقي بحدة لتشكل زوايا حادة غير مألوفة في ذلك الوقت بالنسبة لتصوير فتيات عاريات.

لم تثر هذه اللوحة حماسة براك في بادئ الأمر عندما شاهدها لأول مرة عام 1907، ولكنه ما لبث بعد فترة قصير لأن بدأ بدوره يبسط الشكل ولكن مع أقل عنفا وتباينان ولم تمض بضعة شهور حتى بدأ بإنتاج لوحات في قرية الأيستاك كانت السبب في تسمية أعماله بالتكعيبية كما ذكرنا آنفا.

براك
لوحة منزل في الأيستاك للفنان جورج براك

ومن ثم بدأ العمل مع صديقه بيكاسو على تطوير هذا المفهوم الجديد جنبا إلى جنب فتطابقت اللغة والمفردات الشكلية تقريبا لدرجة أنه بدا من الصعوبة التمييز بين أعمالهما التي أنتجاها في تلك الفترة.

لم تكن هذه الأعمال المدروسة بعناية وليدة الصدفة، وفي نفس الوقت لا نستطيع القول بأن بيكاسو وبراك كانا يعلمان في بداية الأمر إلى أين يتجهان، فما وصلا إليه كان نتيجة تجارب عملية متراكمة لم تبنى على أسس نظرية موضوعة سلفا، وقد حرص كلاهما إلى الإشارة لهذه النقطة ، فقد قال براك: "إن التكعيبية بالنسبة لي أو بالأحرى تكعيبيتي ، إنها وسيلة خلقتها لاستعمالي الخاص ، أما الهدف من خلقها فهو أن أضع التصوير في متناول موهبتي".

 كما قال بيكاسو أيضا: "حين خلقنا التكعيبية لم تكن لدينا نية ما في أن ننتج أعمالا تكعيبية، بل في التعبير عما يخالجنا".

ولنا أن نقول أنه حتى وإن لم يكتشف هذان الفنانان اتجاههما الفني إلا عندما سلكاه معا، فلا نستطيع أن ننكر أن نتاجهما فيه الكثير من الدراسة ومبني على فهم عميق للقيم الشكلية واللونية.

في التكعيبية التي ابتدعها بيكاسو وبراك يخضع اللون للشكل فتكاد تكون الأبوان تقتصر على البني والرمادي وتدرجاتهما، فقد كان جل التركيز على الشكل وعلى محاولة تجزئة الحجوم إلى عدد من الأشكال الهندسية المتراكبة على سطح اللوحة، أما الضوء فإنه لا يخضع لقوانين الطبيعة فنراه يأتي من عدة اتجاهات في نفس الوقت ويتوزع على عناصر العمل حسب إحساس الفنا ليخلق لنا تأثيرا بصريا فريدا من نوعه، إحساس مدهش ومثير.

ومن الطبيعي والمنطقي في ظل هذا التوجه أن يهمل المنظر الطبيعي لصالح الطبيعة الصامتة كالأكواب والقوارير والآلات الموسيقية، وذلك بغية تحليل الشكل فلابد من النظر إلى أشياء ثابتة وصلبة يستطيع الفنان تأملها عن كثب. أما الوجه البشري فكان يعالج ويفكك ويعاد تشكيله بما يخدم الفكرة التعبيرية التي يرتئيها الفنان.

لم يصل الفن التشكيلي الحديث إلى ما وصلت إليه التكعيبية في تلك المرحلة من تفكيك للشكل وتحليله حتى أصبحت اللوحة تحمل قيمتها الفنية الخاصة بها ولها عالمها الخاص، فهي لم تعد مجر تصوير لشيء ما بقدر ماهي شيء قائم بذاته شيء جميل وطريف، تتفتت فيه الأشكال وتداعى على سطح اللوحة لتندمج بالخلفية حتى لا نكاد نستطيع التعرف على خصائص الموضوع المصور لا شكلا ولا لونا، فنشعر أن للوحة حياة مستقلة تعبر عن ذاتها من خلال الزوايا الحادة والخطوط المستقيمة والمنحنية مستعينة بألوان هادئة لا هي حارة ولا باردة، والضوء يتهادى على الأشكال برقة ووداعة فلا نرى سطوع شديد يوحي بالبروز ولا ظلال داكنة توحي بالعمق، فيها من التوازن ما يجعل المتلقي يسترسل في تأمل العمل الذي يثير لديه الكثير من المشاعر والأحاسيس التي لم يعهدها.

الوصف: C:\Users\PCMAX\Desktop\Violin_and_Candlestick.jpg
لوحة للفنان جورج براك

وهنا تجدر بنا الإشارة إلى أن كلا من بيكاسو وبراك لم يكونا ينويان الذهاب بعيدة في هذا الاتجاه، أي أنهما لم يذهبا إلى التجريد الكامل ولم يقطعا صلتهما بالأشياء تماما فكانا يفككان الشكل ويعيدا تشكيله مع السماح بالكشف عن ماهية الموضوع المصور.

الوصف: C:\Users\PCMAX\Desktop\girl-with-mandolin.jpg
لوحة للفنان بابلو بيكاسو

ثم ما لبثا أن بدءا إضافة رموز على سطح اللوحة كالأرقام والحروف والعبارات التي ترمز إلى أشياء كإشارات لها دلالاتها فتضفي على العمل جاذبية إضافية. كان ذلك في عام 1911 وفي عام 1912 شرعا بإضافة قصاصات ورقية ملونة أو أجزاء وقطع من الجرائد والمجلات فعمدا على إلصاقها على سطح اللوحة مع إضافة بعض الخطوط بالقلم أو بالفحم، وهذا الابتكار أصبح مألوفا في أيامنا هذه فيما يسمى بفن الكولاج، وقد تأثر الدادائيون لاحقا بهذه الفكرة. ونستطيع القول إن ابتداع استخدام الأشياء التي تعتبر عادة غير ذات أهمية في الحياة وتوظيفها لخدمة العمل الفني هو بمثابة تأسيس للفن المفاهيمي الذي استحدث لاحقا، لقد أطلق النقاد على هذه الأعمال توصيف (التكعيبية التركيبية) لتمييزها عن البدايات والتي وصفت ب(التكعيبية التحليلية) والتي تأسست على فكرة رسم الأشياء من عدة زوايا ومن أكثر من جانب في نفس الوقت ومحاولة استكشاف ماهية الأشياء من خلال تحليلها إلى أشكالها الهندسية البدائية مع إهمال مطلق لقواعد المنظور.

الوصف: C:\Users\PCMAX\Desktop\4-7.jpg
لوحة للفنان جورج براك

لقد وضعت الحرب العالمية الأولى حدا لشراكة هذان الفنانان حيث التحق براك بالحرب. على الرغم من اختلاف أساليبهما قبل وبعد التكعيبية فإن التقائهما فبي تلك الفترة خلق لنا تيار فني عظيم فيه الكثير من البحث الجاد والتجارب الجريئة والمؤثرة والتي كانت قاعدة انطلاق لكثير من الفنانين الراغبين بالتجديد والتأليف حتى يومنا هذا .

لقد كانت التكعيبية على ما فيها من بساطة في الشكل وقدرة فائقة على التعبير أشبه ما تكون بأبجدية فنية يستطيع الفنان من خلالها تأليف عدد لا نهائي من الصور الفنية المليئة بالإحساس والتعبير ، وهذا سبب دوامها حتى الآن.