icon
التغطية الحية

كلوا الحكومة أو موتوا من الجوع

2022.04.27 | 06:29 دمشق

labtbla.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان من الطبيعي في مقاييس هذا العالم، أن تحتفظ ذاكرة الأدب بإرث أحمد بك شوقي، شاعر الملوك وأمير الشعراء، وأن تنسى عبد الحميد الديب، شاعر الفقر والصعلكة والبؤس، على أنه عاش في حقبة شوقي وحافظ، إلا أنه لم يجامل، لم يهادن، لم يمدح، لم يحنِ رأسه لسلطة أو مجتمع، تمرد على الجميع فنبذه الجميع.

ويعد عبد الحميد الديب (1898- 1943) شاعر السخط الأبرز في العصر الحديث، على الرغم من كفاح والده الريفي البسيط ليدخله الأزهر، وهو حلم كل طالب في مصر مطلع القرن العشرين، ومع اقتراب الحلم من ولوج نهار الحقيقة، انحدر الديب في مهاوي الإدمان والتسكع، عله ينسى أو يتناسى فقره وإجحاف الدهر بحقه، وهكذا مرت حياة الرجل القصيرة، بين شكوى وتمرد وتسكع وتوبة وعودة لمقارفة القلق، إلا أنه ترك ديوان شعر قوي متين، يعطي صورة أوضح عن حياة الناس العاديين في تلك المرحلة، ناس الهامش، الغلابة والحرفيين والمغلوبين، وهو ما تضن به كتابات الشعراء، إلا لماماً.

ففي حين يتغنى معظم الشعراء برمضان، ويقصدون القصائد ويدبّجون الأناشيد في فضله واستقباله ووداعه، كان عبد الحميد الديب واقعياً أكثر إذ يقول:

ها هو المغربُ وافى.. أين زادي؟

وعيالـي في ارتقـابٍ لمعـادي

ليسَ غيرُ الدمعِ زادي وعتـادي

موقفٌ أقتَـلُ من وقعِ الزنـادِ

وفي الوقت الذي كان شعراء البلاط وغيرهم ينظمون القصائد في مدح مقام الخديوي والباشاوات، كان عبد الحميد الديب يحرض الغلابة على ثورة الجياع:

كلوا الحكومة أو موتوا من الجوعِ

صوتُ الفقير المُرجَّى غير مسموعِ  

ووجد في غلاء الأسعار فرصة لإدامة الشكوى والتحريض على الظلم، فنصّب نفسه محامياً يذود عن حق البسطاء في الحصول على احتياجاتهم بأسعار عادلة:

قبل الأعادي حاربوا التجارا 

لا تتركونا للغلاء أسارى

سيان: من طعم الغلاء يعيشه     

ومن اصطلى بين القتال النارا

والقاتلان اثنان: عادٍ في الدُّجى       

أو تاجرٌ قتل النفوس نهارا

إلا أنَّ هذا السقفَ العالي عند الديب في مواجهة ظاهرة غلاء الأسعار، يتواضعُ ويتواطأ عند آخرين، فنرى في أدب غلاء الأسعار غَلَبةً للنُصح، كما في القصيدة الأشهر في هذا الباب، أيها المصلحون ضاق بنا العيش، لحافظ إبراهيم..

والنُصح هو أسلوب القصيدة الأقدم والأشهر في هذا الباب، قصيدة أبي العتاهية، من مبلغ عني الإمام:

مَن مبلغٌ عني الإمامَ نصائحاً متوالية
أني أرى الأسعار أسـعارَ الرعية غالية
وأرى المكاسب نزْرةً وأرى الضرورة فاشية
وأرى هموم الدهر رائحة تمرّ وغــــــــاديــة

الأديان والقوانين والشرائع كلُّها تدخَّلت للحدِّ من الاستغلال والغلاء الذي أدى في كثير من مفاصل التاريخ إلى تدمير بنىً اجتماعية كانت قائمة ومزدهرة، إلا أنَّ تدخُّل الآداب والفنون بدا منسجماً ومتفاعلاً أكثرَ مع الظاهرة التي لا تغيب حتى تعاود الظهور، فمنذ نصيحة أبي العتاهية للخليفة المهدي ولومِهِ في قصيدتِه تلك، لم يتوقف الأدب عن التعاطي مع قضية غلاء الأسعار بتجليات مختلفة، ناقدةٍ حيناً، وناصحةٍ حيناً آخرَ، وساخرةٍ في معظم الأحيان.

وها هو الشاعر محمد الأسمر يداعب صديقه "أبا عاصي" في رمضان، مضمناً تلك الدعابة شكوى مرة من غلاء الأسعار:

ضاقت الناس بالمعيشة ذرعاً     

فإلام الغلاء في الأثمان؟

كل شيءٍ غلا فليس رخيصاً

في الورى كله سوى الإنسان

قِيل شهرُ الصيام آتٍ فقلنا 

نحن شعب يصوم في كل آنِ

عزّت اليومَ "أقَّةُ العجَّالي"  

 "والبتلّو" وعزَّ رطل الضاني

يا "أبا العاصي" يا صديقي قل لي 

أين ما كان.. أين أين (الصواني)؟

وعلى هذا المنوال ذهب كثيرٌ من القدماء والمُحدَثين مذهب السخرية في مقاومة غلاء الأسعار، وظهر هذا جلياً في فن الكاريكاتير والمونولوج والأغنية الناقدة منذ سيد درويش وبيرم التونسي وبديع خيري إلى ثنائيِّها الأشهر، أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، الذي نقل لنا وصفة سحرية من "الدكتور محسن"، في أغنيته "اللحمة والفول"، إذ يرى الدكتور المسؤول أن اللحمة تضر بالمصريين وأن الفول وحده هو الدواء وفيه الشفاء!.

 

 

النارُ تأكلُ بعضها    إنْ لم تجدْ ما تأكُلهْ

لكنْ ليستْ وحدَهَا، فالناسُ تأكلُ بعضَها إنْ لم تجد ما تأكله.. ولا نقصدُ هنا المجاز، بل نقصدُ الأكلَ على الحقيقة.. حدث ذلك في مجاعةِ بغدادَ عامَ ثلاثمئةٍ وأربعةٍ وثلاثينَ هجرية، وحدث قبل ذلك وبعدَهُ في كل مكانٍ استعمَرهُ الإنسان، الذي لم يكره أن يأكلَ لحمَ أخيه حياً ومَيْتاً..

ولعلَّ من أبشعِ صورِ نَهْشِ الإنسانِ أخاهُ عبر التاريخ، الاستثمارَ في المآسي والحروبِ والشدائد، والتحكمَ بالسلعِ وأسعارِها؛ وإمساكِها وتقنينِها وصولاً إلى التحكمِ بالحياة نفسِها.

كلمات مفتاحية