icon
التغطية الحية

قناديل سوريا.. أبو خليل القباني (1)

2022.04.04 | 16:41 دمشق

qbany.jpg
القباني (لوحة نادر قدور)
+A
حجم الخط
-A

رجل من عائلة ثرية، أو كما يقال عائلة آغَوَات، من أصل تركي؛ اسمه أحمد بن محمد آغا بن حسين آغا آقبيق، لقبه أبو خليل القباني، مولود، بحسب معظم المصادر، في دمشق سنة 1833.. ولكن يبدو أن هذا التاريخ ليس دقيقاً، فقد جاء في الكتاب المهم الذي حققه الباحث تيسير خلف، وعنوانه (من دمشق إلى شيكاغو رحلة أبي خليل القباني إلى أميركا 1893)، أنه مولود سنة 1842، أي بفارق تسع سنوات، وتوفي سنة 1903.

ملاحظة: للاطلاع على سيرته الفنية بشكل موسع، يمكن مراجعة كتاب "موشحات أحمد أبي خليل القباني" للباحث علي هيثم مصري، ومشاهدة المسلسل التلفزيوني الذي كتبه خيري الذهبي، وأخرجته إيناس حقي (متوفر على اليوتيوب)، بالإضافة إلى كتاب تيسير خلف، ومقالات كثيرة متفرقة.

عبقرية لا بد من معاقبتها

لا يمكن لمَن يدرس الفن في سوريا، أو الفن العربي بشكل عام، إلا أن يتوقف عند أبي خليل القباني طويلاً، بوصفه شاعراً، وملحناً، ومغنياً، ومشخصاً مسرحياً، ومدرباً لرقص السماح، والأهم أنه المؤسس الأول للمسرح الحديث في الوطن العربي.

في بلاد العرب - وبحسب تعبير محمد الماغوط - لا يمكن أن تمر عبقرية كبيرة دون عقاب! ولذلك كان وضعُ أبي خليل القباني يضيق وينفرج بحسب عقلية الوالي الذي يحكم دمشق، فالوالي عبد اللطيف صبحي باشا احتضنه، وكلفه بتشكيل فريق مسرحي، فأسس مسرحه في "خان الجمرك"، وأقبل الناس عليه، وملأ صيته الآفاق، ولكن معارضيه ضيقوا عليه مجدداً.

وكان عصر القباني الذهبي في أيام الوالي الإصلاحي مدحت باشا، ابتداء من سنة 1878، فقدم له دعماً كبيراً، وأبدع في مسرحه ست سنوات متواصلة، ولكن مشايخ متشددين اعترضوا طريقه مجدداً، فأرسلوا وفداً إلى الأستانا، أوصل صوت احتجاجهم للسلطان عبد الحميد، زاعمين أن القباني (يفسد النساء والغلمان، وينشر الفسق والدعارة!).. وهنا كان لا بد من أن يشد رحاله إلى القاهرة، ولم يخل الأمر هناك من مضايقات قادتها جريدة "الزمان"، فعاد إلى بيروت، فدمشق، فالقاهرة مجدداً، إلى أن سنحت له فرصة السفر إلى شيكاغو في أميركا، للمشاركة في معرضها الدولي.

الجندي الفني المجهول

إذا كان مؤرخو الفنون يتحدثون عن مبدع لم يأخذ حقه، أو أن ما كُتب عنه وقيل فيه أقل بكثير من حقيقته، فنحن نقول إن أبا خليل هو هذا المظلوم بذاته.. والأدلة على ذلك كثيرة، أبرزُها أن ما يعرف باسم "وصلة قدود حلبية"، التي يؤديها مطربون كبار، مثل المعلم صباح فخري، تتضمن عدداً لا بأس به من أغاني أبي خليل وموشحاته، (مع أنها أغانٍ شامية وليست حلبية)، وقلما يفطن أحد، أو يذكر أحد، أنها من تأليفه؛ مثل يا مال الشام، وصيد العصاري، ويا طيرة طيري يا حمامة، ويا ما أسعدك صبحية، إضافة إلى الموشحات الشهيرة مثل: يا غصن نقا مكللاً بالذهبِ، وبالذي أسكر من عذب اللمى.. وبرزت شمس الكمال، وما لعيني أبصرتْ.. إلخ.

اقتباس يغير المعنى

يمكننا، الآن، أن نجري تجربة تفيدنا في هذا السياق. وهي أن نذهب إلى مستطيل البحث على موقع "يوتيوب"، ونكتب اسم موشح "ما لعيني أبصرتْ"، فتأتينا النتائج كما يلي:

1- تسجيل الموشح بصوت الأستاذ صباح فخري. لا توجد إشارة للمؤلف الأصلي أبي خليل.

2- تسجيل الموشح بصوت مجموعة الفرقة الماسية، وفيها أن الشعر قديم، واللحن قديم، والمقام عجم عشيران، والإيقاع إكرك. ولا توجد أية إشارة إلى اسم أبي خليل.  

3- تسجيل الموشح بصوت مجموعة فرقة "طوق الياسمين"، دون أي إشارة إلى المؤلف.

4- نوطة موسيقية للموشح، لا يُذكر فيها اسم أبي خليل أيضاً، مع أن النوطة وثيقة فنية يجب أن تكون متكاملة.

وأما في محرك البحث غوغل، فنجد فيه أن الموشح مسجل على اسم الأستاذ صباح فخري، ونقرأ تحته عبارتين هما:

كلمات: فولكلور

لحن: فولكلور

هناك تسجيل إذاعي للموشح بصوت الفنان مصطفى ماهر، وهو الوحيد الذي دُونت على غلافه إشارة إلى أبي خليل القباني.

إذا تعاملنا مع هذا التجاهل لجهد المبدع أبي خليل القباني بسوء نية نقول إن أولئك الفنانين يسطون على جهده، وإذا كنا ذوي نية حسنة نقول إن التجاهل غير مقصود.. ولكن، لنلاحظ أن الموشح قد فقد خصوصيته ومدلوله في المحصلة، فهو يقول:

"ما لعيني أبصرتْ   أرضَنا قد أقفرتْ

وغدا الظبيُ بعيدْ    وبكائي لا يفيدْ

طاب لي فيها الهوى   واستقرتْ بالنوى

عاملتني بالجَفَا    وهي لا تدري الوفا"  

عندما تسمع الموشح من صباح فخري، مثلاً، يذهب ذهنُك إلى أن المقصود عشيقته، بينما أبو خليل يقصد مدينة دمشق التي (عاملته بالجفا، وهي لا تدري الوفا)، وقد أبدع هذا الموشح وهو على ظهر الباخرة التي أقلته مع فرقته إلى مصر سنة 1883، بعدما أغلقوا مسرحه في حي "العصرونية".

الذروة في مصر، بعد شيكاغو

هذه المرة عاد أبو خليل إلى مصر، وقرر أن يؤسس فرقة سورية مصرية، بعدما كان اعتماده، خلال الفترات السابقة، على الفنانين السوريين فقط. وكان أن افتتح مسرحه في حي "العتبة"، وجهزه بأحدث تقنيات الإضاءة المتوفرة في ذلك العصر، وصممه على شاكلة المسارح الأجنبية التي رآها خلال سفراته إلى أميركا ولندن وباريس. 

حقق مسرح أبي خليل القباني في "العتبة" نجاحاً لم تشهده المسارح في مصر من قبل، فقد كان الجمهور الذي لا يتمكن من الحصول على بطاقة دخول أضعاف الذين يحالفهم الحظ بالدخول، ونشطت تجارة بيع التذاكر في السوق السوداء، وكان مسرحه حافلاً بالعروض الجديدة والقديمة المعروفة، مثل "قوت القلوب"، وغانم بن أيوب"، و"الأمير محمود"، و"عنتر بن شداد" و"عفيفة والكوكبين"، و"هارون الرشيد"، وغيرها من المسرحيات التي ألفها بنفسه، أو اقتبسها من التراث العربي.

وكان من أبرز نجمات فرقته الممثلة البيروتية الشهيرة مريم سماط، والممثلتان الشقيقتان لبيبة ومريم مانلي، ومن دمشق موسى أبو الهيء، وأمين الأصيل، وراغب سمسمية، ومن مصر محمود رحمي، وعمر وصفي الذي أفرد فصلاً من مذكراته الصادرة سنة 1930، للحديث عن رحلة أبي خليل القباني إلى شيكاغو 1893.