icon
التغطية الحية

قليلاً من البوح: أمّي التي تشبهني

2021.10.30 | 09:16 دمشق

أمي التي تشبهني
(لوحة للفنانة الفلسطينية تهاني سكيك)
+A
حجم الخط
-A

لا أحد يتابعني كما تفعل أمي..

تحرص أمي على مشاهدة كل حلقاتي ونشراتي. لم أخرج يومًا من بثّ على الهواء أو عرضت لي حلقة مسجَّلة، إلا تفقدت هاتفي لأراها قد أرسلت لي رأيًا أو مدحًا.. تعلق على كل التفاصيل: ملابسي، أدائي، حواري، ضيوفي.. تضع قلوبًا أو ترسل كفًا يرفع إبهامه دلالة الإعجاب..

أردّ عليها أحيانًا، وأحيانًا أنسى الردّ. فظهوري على التلفاز صار عاديًا بالنسبة لي، ولكنه على ما يبدو لم يصبح عاديًا في اعتبارها بعد.

تضع أمي (لايكًا) على كل منشوراتي، حتى تلك التي لا تعجبها. وفي أعماق نفسي، أدرك مرات كثيرة بأنها تضع اللايك لابنتها وليس لما تقوله.. فمجرد أن يقول ابنك شيئًا قد يكون أمرًا مثيرًا للإعجاب.

على (فيس بوك) أن يخترع رمزًا لإعجاب الأمهات؛ محتواه: اللايك لا تعني الموافقة!

***

تدخن أمي السجائر لا بل تنفثها بدون شراهة، كانت تكفيها اثنتان في اليوم، واحدة مع فنجان القهوة الصباحي، والأخرى مع فنجان المساء.

قبل أن نصبح هي وأنا صديقتين على فيس بوك، كنا نتبادل أحاديث كثيرة وجهًا لوجه.. لم توافق أمي على معظم ما تحدثنا به، لكننا لم نعش معًا وقتًا طويلًا حتى تشتعل بيننا الخلافات.

في الأوقات القصيرة التي كانت تجمعنا، وعندما كانت لا توافق لكنها لا تريد أن "تتزاعل" مع ابنتها البعيدة، وتريد لشخصيتها أن تنمو بإعجاب؛ كانت تصمت.. تبسط شفتيها الرقيقتين في شبه امتعاض حتى تنحفر غمازتاها، ثم تزمّهما ضاغطة على سيجارتها.. تمتص سحابة دخان وترتشف القهوة.

***

في زيارة لها إلى منزلي بعد انقطاع طويل تسببت به الغربة والتأشيرات، راع حسّاساتها كربّة منزل سورية ما رأته من فوضى، في حين كنت أرى كل شيء عاديًا بعد سنوات من الحياة وحدي!

عرفَتني صبيةً طالبة بلا مسؤوليات.. كانت لديها الطاقة لتعزّل منزلًا مساحته مئتان وخمسون مترًا، وتغسل نوافذه وتمسح جدرانه.. كان غضب ذلك الزمان ينطفئ في سطل ماء نغسل به الممسحة، اليوم بحيرة ملأى لا تطفئه.. والصحيح أن نقلع عن الأشياء التي لم نعد نكتفي منها، قبل أن تقتلنا.. نعيش أعراض الانسحاب مرة واحدة.. ثم نتركها إلى الأبد.

اليوم صرت "سترونغ إندبندنت وومن" تعاني من آلام في الظهر.. أعدتُ تعريف مفهوم النظافة مثلما أعدت تعريف نصف المفاهيم في حياتي.. كما نصف السوريين الذين أعادوا تعريف أنفسهم. وصلت إلى استنتاج عميق بأن الغبار لا يأكلنا، وأن الفوضى هي فقط ما نراه في مساحات الخواء حولنا، وما دون ذلك في الغرف غير المستخدمة أو الخزائن أو العنابر "حلال زلال".

كنا في المطبخ يومًا.. علَّقَتْ على الجلي المتراكم. قلت لها إن الجلي ينتظرنا ولا يتبرم من الإهمال.. حتى أنه أكثر إخلاصًا من الرجال.

لم تَقنَع.. أكملتُ: إني أُراكِم الجلي حتى إذا حال عليه الحول دفعت زكاته!

ضحكتْ صامتة.. بسطت شفتيها ثم زمّتهما ضاغطة على السيجارة.. امتصت سحابة دخان وارتشفت القهوة.

***

تخطت أمي الستين ولديها من البنات أربع.. معظم قريباتها وصديقاتها من الجيل نفسه صرن جدّات، لكنها لم تحصل على حفيد مع أن بناتها هنّ الأكبر سنّاً..

لم يسبق أن حدثتني هي عن القصة، ولم يسبق أن قلت لها إن نصف ما فعلته في حياتي لا يعوض أمومة مرجأة.. هناك تواطؤ بيني وبينها ألا نتحدث عن الأطفال، حتى قررتُ كسره..

نهضتُ إلى المطبخ، وغليت ركوة قهوة كبيرة. حضرت فنجانين و"منفضة" سجائر وجلست إلى جانبها.. تحدثت كثيرًا وبكيت أكثر.. عن زواجي، وعن طلاقي، وعمّا حدث بعد ذلك.. عن القلب وعن قسوة الوحدة، وعن الأطفال..

مضى بوح كثير وهي صامتة، وما إن انتهيتُ قالت لي: نوّارة.. الحياة لا تفرد لنا ذراعيها بكل شيء.

ضحكتُ بصمت.. وهذه المرة، بسطتُ أنا شفتيّ في شبه امتعاض حتى حُفرتْ غمازتيّ.. تناولت سيجارتها التي كانت قد وضعتها على طرف "المنفضة".. تنشقت سحابة دخان، وارتشفتُ القهوة!

***

عندما كنًا صغارًا كانت أمي تدخن سيجارتين في اليوم مع فنجاني قهوة.. انتبهت أخيرًا أنها باتت تنهي "باكيتًا" وتشرب ركوتين من القهوة.. صارت أمي تسمع منّا كثيرًا مما يعجبها.. ولا توافق عليه!