في كاريكاتورية المنظومة الأمنية اللبنانية

2019.05.09 | 21:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تستدعي الأنظمة الديكتاتورية الرعب بالقمع والتنكيل والترهيب وتمارسها بأصالة واستمرارية، وتقيم لها مؤسسات انضباطية يتسم عملها بالدقة والانسيابية. ولعل الملاحظات التي يمكن تسجيلها بعد مراجعة طبيعة أداء الانظمة الشمولية الكبرى في القرن العشرين من قبيل النازية تكشف أن العنف العاري والمباشر كان يخيفها، لأنها تعلم أن الخروج من رتابة المؤسساتية وانضباطيتها من شأنه أن يحول العنف إلى فعل يخترق من يقوم به ويحاربه من الداخل.

كانت النازية حريصة على أن يتولى الأصحاء الباردون العقلانيون شؤون التصفيات الكبرى، وبذلك تدرج العنف والتصفيات

حين يصبح القمع فعلا كاريكاتوريا فإن ما يسعى إليه على الدوام هو الإعلان عن نفسه، وإبراز سطوته، والكشف عن عنفه، الذي لن يكون على الرغم من كل ذلك مثيرا للرعب بل دائما وأبدا للسخرية وحسب.

في إطار فعل روتيني بارد ومنظم وحيادي، بحيث ينشغل القائمون به بطبيعة العمليات المؤدية إليه ومدى جودتها وليس بمعناها وطبيعتها، ما يعني نسف الموضوع وإذابته في أسيد الإجراءات.

ويسجل نجاح تلك العملية في تركيب أكبر عمليات تصفية جماعية بروح آلية ميكانيكية لا يعني معها العدد أي شيء، وبذلك فان ضحاياها منعوا من أن يكونوا أشخاصا وتحولوا إلى أرقام أو صيغ حسابية.

هكذا كانت تعمل مؤسسات القمع والتنكيل الجدية والحقيقية، ولكن حين يصبح القمع فعلا كاريكاتوريا فإن ما يسعى إليه على الدوام هو الإعلان عن نفسه، وإبراز سطوته، والكشف عن عنفه، الذي لن يكون على الرغم من كل ذلك مثيرا للرعب بل دائما وأبدا للسخرية وحسب.

يقدم النموذج اللبناني المستجد الذي يقوده وزير الخارجية جبران باسيل شهادة لا تخطئ عن كاريكاتورية العنف، فخلال احتجاج لأهالي منطقة المنصورية على مخاطر مد خطوط التوتر العالي فوق الأبنية السكنية التي يعيشون فيها، قامت القوى الأمنية بالاعتداء على المواطنين وعلى النائب الكتائبي الياس حنكش الذي كان يشارك في الاحتجاجات.

لم يكن المشهد ينتمي إلى حفظ الأمن ولا حتى إلى السلوك العنيف الذي تتسم به القوى الأمنية في كل العالم، بل لم يخرج عن مشهدية قتال الشوارع. يوجد فرق كبير بينه وبين مشاهد القمع التي شاهدناها في باريس مع احتجاجات السترات الصفراء، حيث أن رجال الأمن كانوا يقمعون المتظاهرين بشدة وبحيادية ولكن المشهد لم يظهر على أنه حفلة ثأر عشائرية على الإطلاق.

كان المشهد الفرنسي مؤسساتيا والقمع كان أداء لوظيفة مشرعنة ومقوننة ولكن في لبنان فإن الأمر لا يعدو كونه فعلا ميليشيويا بحتا، فعلى خلفية احتجاجات المنصورية أطلق المواطن السبعيني الخبير المالي داوود مخيبر، وهو شقيق عضو المجلس الدستوري القاضي صلاح مخيبر، صرخة احتجاجية تناول فيها العهد الرئاسي والوزير جبران باسيل ووزيرة الطاقة ندى البستاني، فكان أن اقتيد مخفورا من أمام منزله في مشهد مذل.

ما يمنع مثل هذا المشهد أن يكون تطبيقا للقانون هو أنه لا يطبق سوى على من كان مواطنا مثل داوود مخيبر وكأن هذه الصفة هي إعلان رسمي لمن يحق للنظام التنكيل بهم، في حين أن القوة الفعلية في البلد هي لمن يحملون صفة الميليشيا. هؤلاء لا يقع عليهم القانون ولا يلاحقهم فخلال توتر العلاقات بين الوزير جبران باسيل ورئيس المجلس النيابي نبيه بري قامت ميليشيات حركة أمل بهجوم مسلح على مقر التيار الوطني الحر الرئيسي في مبنى ميرنا الشالوحي في منطقة سن الفيل وأطلقت تظاهرات رفعت خلالها يافطات كتبت عليها عبارات نابية وشتائم بذيئة بحق العهد والوزير باسيل بشكل علني، وكانت وسائل الإعلام ترصد التحركات وتصور الأشخاص الذين كانوا واثقين أن يد قوى الأمن الثقيلة لن تطالهم بأي شكل من الأشكال.

تتوالى الممارسات الكاريكاتورية من إهانة السفراء في وزارة الخارجية على خلفية تسريبات وصلت إلى الصحافة لبعض محاضر اجتماعات الوزارة، والهجمة الأمنية على مكاتب جريدة الأخبار تحت عنوان البحث عن مصادر التسريب.

بعد هذه الغزوة الباسيلية عنونت جريدة الأخبار افتتاحيتها "بدري أبو كلبشة في الكونكورد" في إشارة إلى الشخصية

يتعامل الوزير باسيل وكأنه يضرب بسيف حزب الله وبسيف الدولة في آن واحد. يتصرف كأنه المجال الذي تتلاقى فيه السلطات والأجهزة جميعها

التلفزيونية السورية الشهيرة، وبدا هذا العنوان ليس مهينا وحسب ولكنه ينطوي على قدر كبير من الاستخفاف والازدراء الذي تبديه السلطات الفعلية في وجه السلطات الوهمية.

يتعامل الوزير باسيل وكأنه يضرب بسيف حزب الله وبسيف الدولة في آن واحد. يتصرف كأنه المجال الذي تتلاقى فيه السلطات والأجهزة جميعها فهو يريد أن ينتج نوعا من الكوكتيل القمعي الذي لا يجيد أحد كيفية التعامل معه، والذي يقوم على معادلة الميليشيا الشرعية أو تحويل القوى الأمنية الرسمية إلى ميليشيا ترتدي ممارساتها ثوب القانون.

من ناحية أخرى يصر حزب الله كل الوقت على تذكير باسيل بحجمه وحدوده فالقذيفة الفارغة التي كان قد أهداه إياها منذ فترة مكرسا إياه مقاوما ومانحا إياه لقب أستاذ كانت رسالة واضحة لم يجد باسيل قراءتها.

 تقول تلك الرسالة إن السلاح هو مانح الشرعيات في البلد وإن كل ما يجري فيه إنما يتم تحت ظلاله. تاليا فان تلك القذيفة الفارغة التي أهداها الحزب للأستاذ المقاوم لا تصلح سوى لزراعة نبتة تنطق أوراقها في كل لحظة بما كان قد قاله أحد محتجي المنصورية  حين  أكد أنه يعتبر حسن نصر الله رئيس جمهورية البلد طالبا منه المساعدة.

هكذا نفهم أن ما يعد الحزب العدة له يتجلى في تمكين ظروف مرحلة انتقالية من العهد القوي الحامل لبنية كاريكاتورية إلى العهد الكاريكاتوري الخالص.