icon
التغطية الحية

في ذكرى ولادتها.. أمنية "مي زيادة" إذ تتحقّق

2022.02.11 | 16:30 دمشق

my_zyadt-_tlfzywn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

تمر الذكرى السنوية السادسة والعشرون بعد المئة على ميلاد الكاتبة والأديبة العربية مي زيادة، التى ولدت في مثل هذا اليوم، الـ11 من شباط 1886، بمدينة الناصرة الفلسطينية لأمّ من نفس المدينة وأبٍ لبناني صحفي.

نبوغ مي وآلامها

برز نبوغ ميّ الأدبي في سنّ مبكّرة، ويقال إنها نشرت أولى مقالاتها وهي في السادسة عشرة، خلال إقامتها مع عائلتها في لبنان وقبل هجرتهم إلى القاهرة عام 1908، حيث أسس والدها صحيفة "المحروسة" التي شجعت مي على الاستمرار بالكتابة الصحفية فيها وفي كبرى الصحف والدوريات الأخرى مثل: الأهرام والهلال والزهور.

تعلمت العديد من اللغات الأجنبية، وأتقنت الإنجليزية والإيطالية والألمانية والإسبانية واللاتينية واليونانية. وذاعت شهرة مي داخل أوساط الأدباء والكتّاب العرب الذين استقبلت العديد منهم في صالونها الأدبي الذي أنشأته عام 1912، ومن بين الذين كانوا يترددون إليه: طه حسين وخليل مطران وأحمد لطفى السيد وأنطوان الجميل وعباس العقاد وكثيرون غيرهم.

حمل أول كتاب لها عنوان "أزاهير حلم" وهو مجموعة من الأشعار باللغة الفرنسية، تلاه كتب عديدة نذكر منها كتاب "المساواة" و"كلمات وإشارات" و"ابتسامات ودموع".

عانت مي زيادة من خسائر شخصية بين عامي 1928- 1932 كانت لها الأثر المؤلم على حياتها، بدءًا بوفاة والديها وصديقيها، إضافةً إلى وفاة الكاتب والشاعر اللبناني الذي جمعتها معه علاقة حب شهيرة، وهو جبران خليل جبران.

وبعد تدهور حالتها الصحية، عادت إلى لبنان ليدخلها أقاربها مستشفى للأمراض العقلية في محاولة للاستيلاء على أملاكها، بحسب ما ذكر العديد من معاصريها. إلّا أنّها استطاعت بعد ذلك إثبات صحتها العقلية لتخرج بموجب تقرير طبي وحملة صحفية كبرى في المجلات اللبنانية الرائدة آنذاك، ولتعود إلى القاهرة التي توفيت فيها عام 1941.

عن كتاب "نساء في غرفة فرجينيا وولف" وأمنية مي زيادة

يشير كثيرٌ من الأدباء والنقّاد عند حديثهم عن مي زيادة إلى أمنيةٍ لها كتبتها في مذكّراتها: "أتمنّى أن يأتي بعد موتي من ينصفني، ويستخرج من كتاباتي الصغيرة ما فيها من صدق وإخلاص". وقد وقف الدارسون كثيرًا عند هذه الأمنية متسائلين عن نوع الإنصاف الذي ترجوه وتتمنّاه أديبةٌ بحجم مي زيادة نالت شهرةً واسعةً في عصرها، وأشاد بها معاصروها وكتبوا فيها وعنها الكثير، ويرجحّ نقّاد كثرٌ وآخرهم الأكاديميّة وأستاذة النقد الأدبي في جامعة الكويت سعاد العنزي، أنّ الإنصاف الذي كان يشغل بال مي زيادة هو الإنصاف لأعمالها وتقييمها نظرًا للقيمة الفنيّة والإبداعية التي تحملها، بعيدًا عن شخصها وحياتها وعلاقتها بالوسط الثقافيّ الذي رفعها يومًا إلى السماء، وعندما تعرّضت لأزمتها الشهيرة صمت الجميع صمتًا ما تزال إلى اليوم تُطرح الأسئلة حول أسبابه، ويثير لدينا الدهشة والاستغراب.

طرحت العنزي؛ أمنية مي هذه في كتابها (نساء في غرفة فرجينيا وولف) وتساءلت عن نوع الإنصاف الذي تتمنّاه أديبة بحجم ميّ زيادة، وهي التي أقبل عليها مثقّفو عصر النهضة المصريّة وروّاده، وتهافتوا إلى مجالستها وحديثها من خلال دأبهم على حضور صالونها الأدبيّ كلّ يوم ثلاثاء، وكتبوا القصائد، ودبّجوا المقالات التي يثنون عليها من خلالها، وتغزّلوا برجاحة عقلها ونبوغها.

ترجّح العنزي أنّ زيادة كانت مدركة بأنّ المحيطين بها قد اختصروها في صورة المرأة التي يحبّها الرجال، ويتهافتون على خطب ودّها، ممّا أثار حفيظتها وجعلها تشعر أنّها أشبه بمن فُرض عليه الحصار وكُبّل بالقيود، إنّها تعي في أعماقها أنّ من حولها يُعجبون بها لكونها امرأة مثقّفة جميلة تجيد الكتابة، وليس لأنّها كاتبةٌ في المقام الأوّل؛ أي أنّه أقرب للإعجاب المشوب بالتشجيع منه للاعتراف بتميّزها وقدرتها على منافستهم، وهذا ما أطلقت عليه غادة السمّان التشجيع الملتبس بقولها: "فالزّحام المتملّق حضورٌ موحشٌ، ومي كامرأة ذكيّة ومرهفة كانت بالتأكيد تعي وخز الاستهانة بإبداعها ككاتبة، ومعظم الذين حولها يمطرونها بزبد الإعجاب الملتبس بشخصها الناعم قبل إبداعها. وهو إعجابٌ متنصّلٌ منها إبداعيًّا، ويتجلّى ذلك التنصّل المتملّص في لحظات الصّدق النقديّة المكتوبة، لا المدائح الشفهيّة المجانيّة".

هنا تمامًا تكمن مشكلة مي زيادة، وشعورها بالغبن إنّما ينهض في جوهره وأصله على رغبتها العميقة في أن تُجلّى صورتها الحقيقية من خلال أدبها ونقدها وفكرها، وليس من خلال المحيطين بها ونظرتهم إلى شخصها وروحها المرحة اللطيفة وثقافتها التي تفيضها على مجلسهم في صالونها كلّ ثلاثاء!

تقدّم العنزي في كتابها هذا قراءة نقديّة متميّزة تنتمي إلى الأدب المقارن؛ إذ تعمد إلى إضاءة جوانب كانت باهتة في مسيرة كاتبتين متميّزتين تُعدّان من رائدات الحركة النسوية الحديثة

لعلّ كتاب (نساء في غرفة فرجينيا وولف) لسعاد العنزي يحقّق أمنية مي زيادة بالصورة التي كانت تتمنّاها؛ وقد أثار الكتاب تفاعلًا واسعًا منذ صدوره العام الفائت، ولاقى ترحيبًا وقبولًا لدى شريحة واسعة من القرّاء المهتمين بالأدب النسويّ بشكل خاصّ، وفي الأوساط الأدبية بشكل عام، وقد توّج هذا الاهتمام والتفاعل مع الكتاب بوصوله إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد؛ إذ تقدّم مؤلّفته فيه صورة مختلفة لمي زيادة تعتمد على كتاباتها الأدبيّة والنقديّة وتبتعد عن المنهج الذي ساد طويلًا في التعامل مع مي زيادة من خلال حديث الآخر عنها؛ وعلاقاتها بالرجال المثقّفين الموجودين في محيطها؛ ممّن حرصوا على حضور صالونها الأدبيّ، أو ممّن كانت بينها وبينهم مراسلات أدبية وعلى رأسهم جبران خليل جبران الذي التصق ذكر مي به، وألّفت حول علاقتهما تلك كتب وأحاديث كثيرة.

تقدّم العنزي في كتابها هذا قراءة نقديّة متميّزة تنتمي إلى الأدب المقارن؛ إذ تعمد إلى إضاءة جوانب كانت باهتة في مسيرة كاتبتين متميّزتين تُعدّان من رائدات الحركة النسوية الحديثة من خلال ربطٍ مميّز ومشوّق بين عالمين (الشرق والغرب) منطلقة من فكرةٍ مفادها أنّ حكايا النساء كلّها تنبع من معينٍ واحد هو السّير الذاتيّة المُشبعة بالمعاناة والتجاهل والألم، مع فارقٍ جوهريّ يظهر البون الشاسع بين العالمين؛ فقد تلقّت فرجينيا الدعم من محيطها وزوجها خصوصًا خلال الأزمة العقليّة التي مرّت بها، بينما اقتيدت مي وهي في كامل قواها العقلية وذروة عطائها الأدبيّ إلى مصحٍّ عقليّ، ليُحجر عليها، وهكذا خنق ذووها بكلّ بساطة مشاعرها وإباءها وإحساسها العميق بكرامتها بدافع الجشع والاستيلاء على أملاكها، وهذه المفارقة تكشف المسافة الواسعة بين الغرب والشرق؛ فالأوّل عالم متطوّر ومتحضّر يحترم نساءه، والثاني يقتادهنّ إلى قاع البؤس ودهاليز الجنون.

ولأنّه لا يسعنا في هذا المقام الضيّق أن نحيط بكلّ الأفكار التي قدّمتها العنزي في كتابها المختلف هذا؛ سنتوقّف عند إشارة مهمّة ولافتة لمؤلفته تتجلّى في حديثها عن امتلاك مي زيادة لرؤيةٍ كونيّةٍ إنسانيّة مبكّرة؛ تبنّتها وناقشتها في مقالٍ لها بعنوان: "أين وطني؟"

ترى العنزي أنّ زيادة وبالرّغم من أنّها عانت أزمةً في هويّتها ظهرت في مقالها هذا؛ فإنّها عرضت تصوّرها عن الهوية الإنسانيّة والذي يبدو متشرّبًا بالفكر الكوني الإنساني، والانتماء إلى الإنسان والهويّة الشمولية وأخويّة الإنسان، وهذا التيّار تبنّاه روّاد مدرسة المهجر الشمالي الذين تأثّرت مي بهم من خلال علاقتها وتأثّرها بجبران خليل جبران؛ فقد كانت تعدّه معلّمها.

وتضيف العنزي أنّ زيادة كانت تعرف تمامًا موطئ قدميها ومن أين تنطلق؛ إذ تمتّعت بقدرة كبيرة على التجاوب والتناغم مع معطيات زمنها من خلال خطواتٍ استباقيّة وواثقة، تجلّت في مقدرتها على قراءة الواقع والمحيط الاجتماعيّ والإحاطة بهما، وقد مكّنها ذكاؤها من مخاطبة محيطها الثقافيّ بلغته وثقافته وفكره، مع حرصها على عدم الاصطدام بالمجتمع الذي تريد التأثير فيه؛ لذلك نجدها تلجأ عند حديثها عن المرأة إلى المواءمة في مرحلة كانت فيها معالم الهويّة الإسلاميّة تتنامى، ممّا جعلها تحرص على عدم إثارة غضب قرّائها منها، من خلال براعتها وحنكتها وامتلاكها مفاتيح القدرة على الانسجام الظاهري مع المحيط؛ إلّا أن ذلك الحرص على الانسجام تحديدًا هو الذي جعلها تشعر بالغربة وعدم الانتماء وهذا ما شكّل معاناتها من أزمةٍ في هويّتها بدا جليًّا في مقولتها: "وُلدتُ في بلد، وأبي من بلد، وأمّي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلدٍ إلى بلد، فلأيّ هذه البلدان أنتمي، وعن أيّ البلدان أدافع؟".

وتذهب العنزي إلى أنّه عندما تُطرح قضيّة الانتماء والهويّة الدينيّة، فإنّ مي تتناوله بشكلٍ جديّ وتفرد له مساحة واسعة في أعمالها، وقد برز قلقها وعدم استقرارها على هويّة واحدة في مجموعة من مقالاتها وإبداعاتها، بينما مقالاتها التي تتناول فيها الشأن العربيّ والمصريّ تحديدًا؛ تنطلق فيها من إحساسها بمسؤوليتها ومواطنتها المصرية، وكان لها دورٌ مهمٌّ في مناقشة هذه القضايا كمواطنةٍ تشعر بالثّقة وتملؤها مشاعر المواطنة.

وتستشهد العنزي في هذا الخصوص بمقولةٍ لـ (آنيتا زيغلر) المستشرقة الألمانية التي تولّت تحقيق (كتابات منسيّة) لمي زيادة؛ إذ تناقش فيه قضيّة الانتماء إلى الفضاء العام والتعبير عن الذات، تقول زيغلر: "في كتاباتها المبكّرة كانت ميّ زيادة تستند كغيرها من الكتّاب الشوام والمصريين، المسيحيين والمسلمين على التاريخ والثقافة واللغة المشتركة، وإنّ استعارتها اسم ميّ عوضًا عن اسمها الحقيقيّ ماري، كان تعبيرًا واضحًا عن هذا الشعور بالانتماء".

إنّ ما قدّمته مي زيادة في موضوع الهويّة كما ترى العنزي؛ ينمّ عن فهمٍ عميق للذات الإنسانيّة يقتربُ مع ما يُطرح اليوم تحت مسمّى الهويّة الكونية، بالرّغم من شعورها أنّها تعيش حالة نفيٍ واغترابٍ داخليّ عن الوسط الثقافيّ الذي تنتمي إليه؛ وهذا ما تناوله إدوارد سعيد في كتابه (تأمّلات في المنفى)، حيث يقول: "إنّ المنفيّ يعيش في حالةٍ وسطيّة لا ينسجم تمامًا مع المحيط الجديد، ولا يتخلّص كليًّا من عبء البيئة الماضية.. ولأنّ المنفيّ يرى الأمور من حيث علاقتها بما خلّفه وراءه، وبما هو أمامه الآن على السواء، فإنّ ثمّة منظورًا مزدوجًا لا يقدر مطلقًا على رؤية الأشياء بمعزلٍ عن بعضها".

ولذلك فإنّنا نلحظ عند مي حالةً من التزعزع التي تعيشها في التمسّك بثقافتها التي تخالف ثقافة المجتمع المحيط بها؛ ولا سيّما أنّها عانت من أصحاب التيّارات المختلفة وهجومهم الدائم عليها، يُضاف إلى ذلك افتقادها الوطنيّة الكاملة بشدّة، ففلسطين في ذلك الوقت لم تنشأ كدولة.

إنّ كتاب (نساء في غرفة فرجينيا وولف) لسعاد العنزي قد يكون بمنزلة هديّة منصفة وعادلة في ذكرى ميلاد مي زيادة التي أطلقت أمنيتها تلك قبل زمنٍ طويل؛ بأن يأتي بعدها من يُنصف كتاباتها، ولعلّ أمنيتها تلك قد تحقّقت في هذه القراءة المختلفة والمتميّزة لنتاج مبدعة عربيّة كـ (ميّ زيادة) التي خطف بهاء شخصيتها وحضورها في المجالس الأضواء من نتاجها الإبداعيّ؛ الأمر الذي وعته صاحبته جيّدًا وأقضّ مضجعها، لتأتي مبدعةٌ عربيّة أخرى وتحقّق أمنية طال انتظارها من قِبل ميّ، وتثبت لنا أنّ الأدب والنقد النسائيّ لن يكونا مجرّد ضيفين عابرين؛ وقد ختمت الكاتبة كتابها هذا بأن ضمّت صوتها إلى صوت الناقدة الأميركيّة (إيلين شوالتر)، القائلة: "شيءٌ واحدٌ هو المؤكّد: النقد النسائيّ ليس ضيفًا عابرًا. إنّه هنا ليبقى، وعلينا أن نجعله وطنًا دائمًا".