في ذكرى حدثين دمرا مشروع الدولة السورية

2023.03.08 | 07:12 دمشق

في ذكرى حدثين دمرا مشروع الدولة السورية
+A
حجم الخط
-A

قبل أيام مرت ذكرى الوحدة بين جمهوريتي مصر وسوريا، ففي 22 فبراير/ شباط 1958م، تم توقيع ميثاق الجمهورية العربية المتحدة من قبل رئيسي الدولتين آنذاك "شكري القوتلي/ سوريا، وجمال عبد الناصر/ مصر"، تلك الوحدة التي كانت الشعارات والأفكار الحالمة هي الدافع الأساسي لها عند السوريين الذين سعوا ورتبوا لها، ولم تكن الدراسات العميقة الاجتماعية، أو السياسية، أو الاقتصادية حاضرة في أسباب الذهاب إليها.

رغم أن الصحفي المعروف "باتريك سيل" كتب: (إن جمال عبد الناصر لم يكن متحمساً لوحدة عضوية مع سوريا)، وكان يفكر فقط في حشد تضامن عربي عام مع سياساته، واصطفاف سوريا إلى جانبه سياسياً في معاركه السياسية التي كان يخوضها، فما الذي دفعه إلى وحدة عضوية إذاً؟

يفسر بعض الباحثين أن الحماس الذي أبداه بعض الضباط البعثيين، والذي جاء منسجماً مع حماس شعبي اجتاح العالم العربي عموما، وسوريا خصوصا، بعد سلسلة من المواقف التي شهدتها مصر بعد "ثورة يونيو"، التي قام بها الضباط الأحرار على الملكية في مصر، كتأميم قناة السويس، والوقوف في وجه حلف بغداد، ثم التصدي للعدوان الثلاثي بالإضافة إلى شعارات التأميم والاشتراكية و..و...الخ، والتي رسخت زعامة عبد الناصر كزعيم يجسد طموحات الشارع العربي، ويحظى باحترام واسع في الأوساط السياسية السورية، كل هذا شكّل أرضية لقبول فكرة الوحدة.

فيما بعد، وبعد فشل الوحدة وإعلان حلها في أواخر شهر سبتمبر/ أيلول 1961م، عاشت سوريا مرحلة قصيرة قبل أن يستولي البعث على السلطة بانقلاب عسكري في 8 آذار 1963م، وبوصول البعث إلى موقع القرار، مُنع على السوريين البحث في تجربة الوحدة ودروسها وعِبَرها، وكالعادة تم تسويق الرواية الكاذبة المستندة إلى الآيديولوجية، والمؤامرة، والشعارات وغيرها من "البروباغندا" المضللة، كراوية وحيدة لقراءة تجربة الوحدة.

الوحدة مع مصر، على قصر عمرها، نسفت هذه الإمكانية، وهيأت الأرضية المناسبة لفكرة الدولة الشمولية التي يحكمها حزب واحد آيديولوجي، يتزعمه ديكتاتور

يمكن القول: إنه لولا الوحدة وظروفها، والطريقة التي أدار بها "جمال عبد الناصر" الدولة الجديدة بإقليميها الشمالي والجنوبي لما يزيد على ثلاث سنوات ونصف، ربما لم يتمكن البعث من إنجاز انقلابه، ولما استطاع أن ينفرد بالسلطة بهذه السهولة، فسوريا التي لم تعرف استقراراً سياسياً حقيقياً بعد استقلالها، لكنها، وعلى الرغم من قصر الفترة البرلمانية التي عرفتها ما بين الاستقلال والوحدة، والتي كانت تقطعها الانقلابات العسكرية، كانت قد بدأت - ولو بشكل أولي - تؤسّس لقواعد وتقاليد سياسية، يُمكن لها أن تفضي إلى دولة حديثة بمرور الوقت، لكن الوحدة مع مصر، على قصر عمرها، نسفت هذه الإمكانية، وهيأت الأرضية المناسبة لفكرة الدولة الشمولية التي يحكمها حزب واحد آيديولوجي، يتزعمه ديكتاتور، ويقود الدولة والمجتمع بالشعارات وبالقمع.

لم تنجح كل المحطات السياسية، أو الحكومات المتتالية على سوريا بعد الاستقلال في أن تضع قضية حل التناقضات الاجتماعية الأساسية في سوريا في أول أولوياتها، ويُمكننا اليوم وبعد ستة عقود من حكم البعث أن نلحظ أن هذه التناقضات بقيت، لا بل زادت عمقاً وتعقيداً.

إذا اعتبرنا أن هذه التناقضات تتركز أساساً في ثلاثة مفاصل هي: التناقض المناطقي بوجهيه (مديني/ مديني) و(ريفي/ مديني)، والتناقض الهوياتي (مجازاً) المتعدد الأوجه وأبرزه (السني/ الأقلوي)، والتناقض الطبقي، فإنه من المنطقي أن نتوقع تراجع هذه التناقضات بعد الاستقلال، وتقدم مشروع الدولة الوطنية، واشتغال النخب على التأسيس لمشروع ثقافي وهوياتي يرسخ صيغة الدولة الحديثة، ويجيب على سؤال الهوية الذي بدأ يطرح نفسه أمام النخب الثقافية والسياسية منذ الاحتلال الفرنسي، لكن هذا لم يحدث!

لم تتح الحياة السياسية غير المستقرة من يوم الاستقلال وصولاً إلى يوم الوحدة للنخب السياسية والفكرية السورية أن تفكر بجدية بصياغة مشروع هوية، وكانت الأحداث التي تعصف بالعالم خصوصاً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمتها إعلان دولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية، عاملاً مهماً في تشتت هذه النخب بين استلهام أو تقليد ما يجري في الخارج، وبين حاجة الداخل، يُضاف إلى ذلك عاملان أساسيان هما قصر الفترة الزمنية نسبياً، وتعدد الانقلابات التي أربكت المجتمع ونخبه.

اليوم، تقف النخب السورية مرة أخرى أمام التناقضات نفسها والتي يزيد عمرها على قرن، بمقاربات لا تختلف كثيراً عن مقارباتها القديمة

كان يُمكن لحزب البعث الذي يصادف (8 آذار) الذكرى الستون لاستلامه حكم سوريا بعد انقلاب عسكري، أن يُعيد الاعتبار لأولويات المجتمع السوري، وأن يُنجز مشروع الهوية السورية والدولة السورية، لكنه ولأن مشروعه لم يكن يوماً إلا السلطة، والعمل بدلالة البقاء فيها، فقد أزاح وبالقوة كل ما يستوجب الإجابة عليه كمقدمات حتمية لإنجاز هذا المشروع، فتم تأجيل الصراع الديني/ العلماني، والصراع الديني/ الديني والصراع الريفي/ المديني، وتم تجاهل جملة بالغة الأهمية من الاستحقاقات الضرورية، التي يجب القيام بها لقيام مشروعي الدولة والهوية، مثل المواطنة السورية، والعقد الاجتماعي الأنسب لتركيبة المجتمع السوري، وقضية المركزية أو اللامركزية، إلى آخر ما هنالك من أسئلة واستحقاقات حتمية، ولا يُمكن إزاحتها.

اليوم، تقف النخب السورية مرة أخرى أمام التناقضات نفسها والتي يزيد عمرها على قرن، بمقاربات لا تختلف كثيراً عن مقارباتها القديمة، وتُعيد مرة أخرى محاولة القفز عنها، لكن هذه المرة بحجة أن بعضها تناقضات قديمة، وتنتمي إلى ماضٍ مضى، وأنه من المبكر الخوض في بعضها الآخر، لكن بدراسة متأنية لمجريات السنوات العشر الأخيرة من تاريخ سوريا، يُمكن رؤية العكس تماماً، فهذه التناقضات والأسئلة أشد تأثيراً عما كانت عليه سابقاً، وحاضرة في شتى أوجه الحياة أكثر بكثير من حضورها سابقاً، وما كان يتطلب جهداً ما للإجابة عنه، أصبح اليوم يتطلب جهوداً مضاعفة.

إنه التحدي الذي ينتظر السوريين ونخبهم، والذي إن لم يستطيعوا التصدي له، فإنهم يدفعون إلى تفتت الكيان السوري.