في الحديث عن المشهد الشعري السوري العام

2024.06.10 | 06:12 دمشق

اليرموك
+A
حجم الخط
-A

عندما أفكر في المشهد الشعري السوري قبل عام 2011، أتساءل عن الخصائص التي كانت تميز هذا المشهد عن باقي الشعر الذي يُكتب في العالم العربي. أقصد الخصائص التي تجعل أحدهم يقول إن هذا شعر سوري، وليس مصريًا ولا لبنانيًا ولا فلسطينيًا ولا عراقيًا.

أرى أن تلك الخصائص لم تكن واضحة؛ لأن الشعر السوري توقف عند كثير من المحطات ونادرًا ما عاود الانطلاق. فمثلًا، أصحاب المدرسة الكلاسيكية في الشعر السوري، حتى اللحظة، لم يستطيعوا تجاوز شعراء خمسينيات القرن الماضي. لم يتجاوز أحد منهم نزار قباني أو عمر أبو ريشة أو بدوي الجبل أو نديم محمد، على سبيل المثال. ومثلهم شعراء قصيدة التفعيلة، التي أظن أن إنتاجها الجديد واللامع توقف عند شعراء بعينهم ظهروا في ثمانينيات القرن الماضي، وكانوا أصلًا أبناء شعراء الستينيات في سوريا، وهم الأشهر، على الأقل في سوريا. ليس لأنهم الأكثر إبداعًا، مع عدم نكران إبداعهم، بل لوجود أسباب سياسية تقف وراء ذلك أيضًا. فقد ترافق ظهورهم الشعري مع مرحلة تأسيس النظام السوري لمكانته في حكم سوريا، مما جعله في البداية يفسح المجال للفن والأدب، فقرب الكثير من المثقفين، حتى غير البعثيين، ومنحهم منابر واسعة سرعان ما سقطت وفشلت بعد تحكمه بالكامل. (هذا يحتاج إلى حديث طويل حول علاقة المثقفين بالنظام السوري في زمن حافظ الأسد).

أما شعراء قصيدة النثر منذ السبعينات وحتى 2011، وهم الأكثر في سوريا في ذلك الوقت، فكانوا يدورون بين ثلاثة أنماط: محمد الماغوط ورياض صالح الحسين وسنية صالح. حتى وقت طويل امتد إلى بدايات الألفية الثانية، حيث بدأت تظهر في الشعر السوري مواضيع جديدة مستمدة من اليومي المتأثر بتقنيات الاتصال الحديثة، التي كانت قد بدأت تغزو العالم بقوة. أتذكر هنا عند تحريري لأنطولوجيا الشعر السوري (1980 لغاية 2008)، والتي أدخلتني بعد صدورها في معارك ثقافية وشخصية، كيف بدأت أنتبه إلى تشارك شعراء الألفية الثانية في لغة شعرية محملة بمفردات جديدة مرتبطة بعالم الشبكة العنكبوتية.

على أن الحديث عن الشعر السوري بوصفه ظاهرة تحمل خصائص محددة تميزه عن غيره، أظنه كان غير دقيق كثيرًا. فلا يختلف الشعر السوري في ذلك الوقت عن اللبناني، لا من حيث اللغة ولا المخيال ولا بنية القصيدة. ربما بعض المواضيع اختلفت في الشعر اللبناني، خصوصًا بعد احتلال الجنوب من قبل العدو الإسرائيلي، فظهرت قصيدة المقاومة (قصيدة التفعيلة على وجه الخصوص). لكن في العموم، كان يمكننا الحديث عن مشهد يميز الشعر في بلاد الشام عن الشعر العراقي أو المصري أو المغاربي، من حيث بناء الجملة الشعرية والعلاقات اللغوية والخيال والتركيب اللغوي، خصوصًا بعد ستينيات القرن الماضي، مع اختلاف المواضيع بسبب المتغيرات والاختلافات السياسية والاجتماعية في ذلك الوقت. لكنني، شخصيًا، أظن أن الحديث عن ظاهرة شعرية تميز كل بلد عربي على حدة هو حديث نقدي لا أكثر بهدف الدراسة الأكاديمية. والأصح هو الحديث عن الشعر العربي الذي يستخدم لغة واحدة، هي الحامل لكل الخصائص الشعرية للقصيدة العربية ودور هذا الشعر في الحركة الشعرية العالمية.

مع نهاية عام 2011 واستمرار إجرام النظام السوري، ثم دخول الثورة السورية في فخاخ عديدة أدت لاحقًا إلى هزيمتها، ومع كل المتغيرات التي حصلت للثورة وللسوريين، غادر سوريا كثير من مثقفيها وشعرائها وكتابها خوفًا من الاعتقال أو هربًا من الحرب والموت، باحثين عن بلاد وأوطان جديدة تضمن لهم بعض العيش الكريم والآمن. وفي هذه الأثناء ظهر جيل شعري جديد، كبر شعريًا مع الحرب في سوريا، فلمعت أسماء شعرية لا علاقة لها بمؤسسات النظام الثقافية ولا تنتمي إلى دائرته.

لكن هل استطاعت تلك المتغيرات والاصطدام مع المجتمعات الجديدة والمنفى والاغتراب والعيش اليومي مع الحرب ومجرياتها ونتائجها أن تشكل ملامح خاصة بالشعر السوري، سواء داخل سوريا أو خارجها؟

استطاعت هذه الأسماء أن تسوق نفسها بنفسها باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، التي شكلت منابر لا سيطرة لأحد عليها ولا حد معين لجمهورها. وفي المقابل، ظهرت أسماء شعرية جديدة كبرت شعريًا في بلاد اللجوء واستطاعت أن تفرض حضورها في المساحات المخصصة في المجتمعات الجديدة لتجارب اللاجئين الأدبية والفنية من قبل منظمات ممولة من المجتمع المدني في بلاد اللجوء، لا سيما الأوروبية؛ (يمكن هنا أن نذكر ألمانيا والسويد كأمثلة عن المجتمعات التي يحضر فيها الشعراء السوريون من جيل الثورة والحرب بقوة). وفي الوقت نفسه، استمرت تجارب الأجيال الشعرية السابقة في الحضور والوجود، سواء خارج سوريا أو داخلها. وهنا أيضا لا يزال الحديث عن الشعراء من خارج مؤسسات النظام ودوائره ومنابره، ذلك أن شعراء دوائر النظام، في أغلبهم، لم يستطيعوا تجاوز ما أنجزوه قبل 2011، ولم يستطيعوا الخروج أبعد من دائرة اتحاد الكتاب والمراكز الثقافية والدعوات الشعرية من قبل مهرجانات محلية أو عربية تتبنى خطاب النظام السوري ضد الثورة وترى فيه نظامًا ممانعًا ومقاومًا رغم كل ما حدث ويحدث.

لكن هل استطاعت تلك المتغيرات والاصطدام مع المجتمعات الجديدة والمنفى والاغتراب والعيش اليومي مع الحرب ومجرياتها ونتائجها أن تشكل ملامح خاصة بالشعر السوري، سواء داخل سوريا أو خارجها؟ ربما يمكن طرح هذا السؤال على النقاد السوريين المتتبعين للحركة الشعرية السورية حاليًا، وإن كانت الحركة النقدية، كما ألاحظ، لا تواكب المتغيرات في الشعر السوري الحديث، وظل معظمها يدور في فلك شعراء الستينيات والسبعينيات على الأكثر. لكن من خلال متابعتي كقارئة للشعر ومهتمة به، يمكنني القول إن ما يكتب حاليًا في الشعر السوري لا يميزه عن غيره من باقي الشعر العربي إلا بتفاصيل ربما تتعلق بالظروف الشخصية التي يعيشها الشعراء السوريون. شكلت الحرب ومفرداتها في منتصف العقد الماضي إطارًا يجمع داخله ما يكتبه الشعراء السوريون، كذلك مكابدات المنفى والحنين ومعاناة الاندماج في المجتمعات الجديدة واللغات الجديدة. العزلة والوحدة أيضًا كانت داخل هذا الإطار. لكن لم يبق هذا، ولم يكن أصلًا، حكرًا على الشعراء السوريين، ذلك أن نتائج الربيع العربي كادت أن تكون متشابهة في معظم الدول التي بدأ بها، حتى تلك التي تغيرت أنظمتها، لكنها ابتُليت بحروب داخلية وانقسامات وانهيارات اقتصادية وعودة للاستبداد بأعنف مما كان سابقًا، ما جعل كثيرين أيضًا من أبناء هذه البلدان يبحثون عن مجتمعات وبلاد أكثر عدلًا وأمنًا، وهو ما انعكس أيضًا على شعراء تلك البلاد. فكتبوا عن الحروب وعن المنفى وعن الغربة وعن الوحدة وعن مكابدات الخوف من المستقبل ومكابدات هول الحاضر وعن العزلة الإنسانية الكبرى ونتائج ما بعد الحداثة التقنية والمتغيرات المهولة التي حصلت للبشرية خلال العقد الأخير من الزمن. وكلها مواضيع يشترك فيها شعراء بلدان العالم الثالث إلى حد كبير، كما أنها باتت مواضيع إنسانية عامة تنعكس في كتابات الشعراء عمومًا ولا تقتصر على شعراء لغة ما. فالحروب لم تتوقف منذ عقود، وحركات اللجوء والهجرة ومشكلات المنفى والاندماج والعزلة الإنسانية الكبرى، ومحاولات التوازن في عالم فقد إنسانيته بالكامل، والعجز التام أمام الانهيار الأخلاقي والقيمي للضمير العالمي، كلها أصبحت همومًا إنسانية مشتركة. والشعراء هم الأكثر تأثرًا بها والأكثر قدرة على تمثلها والتعبير عنها بوصفها إرهاصات وجودية يمكن للغة أن تتبناها شعريًا. وهنا ستختلف اللغة الحاملة للنص الشعري المستخدمة بين شاعر وآخر، لكن حركة الترجمة الهائلة الحاصلة بين اللغات البشرية والحاجة البشرية لتعلم اللغات الجديدة ألغت الحدود التي تفصل بين مشهد شعري وآخر، إلى حد شعور القارئ أحيانًا بالتشابه بين معظم النتاج الشعري العالمي بفوارق لا تشكل ظاهرة كبيرة إلا باستثناءات نادرة جدًا.

يخيل إلي أحيانًا أن ما يمكن الحديث عنه على مستوى الشعر، سواء العربي أو العالمي، هو الزمن الشعري بالمعنى التاريخي المادي لا بالمعنى المجازي، أو لنقل المرحلة الشعرية في كل بلد. أما الحديث عن شعر سوري أو عربي أو عالمي، فبات يصعب القبض عليه مع الانكشاف المهول للبشرية وانفتاحها أمام الجميع، والذي لم يكن ليحصل لولا الخيال ما بعد الحداثي الذي أوصل التطور التقني إلى ما وصل إليه حاليًا.