icon
التغطية الحية

في التمثيل السياسي (الديمقراطي) للفلسطينيين

2024.01.05 | 07:01 دمشق

ؤييب
+A
حجم الخط
-A

منذ خمسة أعوامٍ تقريبًا، في الثامن عشر من أكتوبر/ تشرين الأول تحديدًا، نظمت مؤسسة ابن رشد للحوار والفكر الحرّ في برلين ندوةً أو جلسةً نقاشيةً بعنوان "السلام في فلسطين: هل ما زال بالإمكان تحقيق هذا الحلم؟". وقد شاركت في الندوة مع كلٍّ من القياديّة الفلسطينيّة الدكتورة حنان عشراوي، وروث فروختمان الكاتبة والصحفيّة المشاركة في تأسيسِ مؤسسة "الصّوت اليهودي لسلامٍ عادلٍ في الشّرق الأوسط"، في ألمانيا. ومن الأفكار التي طرحتها في مداخلتي فكرة أن الصراع ليس صراعًا فلسطينيًّا إسرائيليًّا (فحسب)، بل هو صراعٌ عربيٌّ إسرائيليٌّ، (أيضًا وخصوصًا). وقد أشرت حينها إلى أن إسرائيل احتلت سابقًا، أو ما زالت تحتل حاليًّا، أراضٍ تابعةٍ لعدة دولٍ عربيةٍ (إضافةً إلى فلسطين، هناك سوريا ومصر والأردن ولبنان). وفي حوارٍ جانبيٍّ مع السيدة فروختمان، أبدت استغرابها من تشديدي على عربية الصراع، لأنها رأت أنها تظن مع كثيرين أنه من الأفضل إبراز البعد الفلسطيني للصراع، لا بعده العربي.

تذكرت كلام فروختمان أكثر من مرةٍ خلال السنوات الأخيرة، ولعل آخرها حين سمعت كلامًا لنتنياهو يقول فيه إن الفلسطينيين عربٌ، وإن للعرب أكثر من عشرين دولةٍ يمكن للفلسطينيين أن يذهبوا إليها، ويقيموا فيها، أما اليهود فلهم دولةٌ واحدةٌ فقط، هي دولة إسرائيل، ومن حقهم، على هذا الأساس، أن تكون هذه الدولة دولتهم وحدهم فقط. وسبق أن صدرت أصواتٌ مماثلةٌ، في بداية الحرب الهمجية على غزة، تشير إلى أن الحل يكمن في ترحيل فلسطينيي غزة إلى مصر ودولٍ عربيةٍ أخرى، فهم عرب بالنهاية!

وكان لاستقلال القرار الفلسطيني وحصرية تمثيله للقضية الفلسطينية ثمنًا هائلًا، وأفضى إلى علاقةٍ معقدةٍ بين الجهات الفلسطينية الممثلة للفلسطينيين و(أنظمة) بعض أو معظم الدول العربية.

من الواضح تهافت مثل هذا الخطاب الذي يجعل عربية الفلسطينيين تلغي فلسطينيتهم وفلسطينية أراضيهم التي يقيمون عليها أو هُجِّروا منها. لكن ذلك لا ينفي العلاقة المعقدة بين البعدين الفلسطيني والعربي في الصراع مع إسرائيل. كما أن التوظيف السلبي للحديث عن عربية الصراع (وعربية الفلسطينيين) لا يقتصر على الجانب الإسرائيلي فحسب، بل إن هذا التوظيف حاضرٌ بوضوح وقوة أكبرين، في الجانب العربي الرسمي. ويمكن اتخاذ النظام السوري و"جماعة المقاومة والممانعة" عمومًا، نموذجًا لتوضيح هذا التوظيف الانتهازي السلبي. فباسم مركزية القضية الفلسطينية وأولوية الصراع مع إسرائيل و"تحرير القدس"، مورس الاستبداد، وهُمشت قضايا الديمقراطية والحريات والتنمية، وبُرِّر القمع وتحويل الدولة إلى دولة أمنيةٍ سلطانيةٍ تسلطيةٍ. وباسم المركزية والأولوية المذكورتين أصبح بالإمكان جعل كل شيءٍ هامشيًّا وثانويًّا، بل أصبح بالإمكان التضحية بالفلسطينيين أنفسهم باسم القضية الفلسطينية! ولعل عمليات القصف والتدمير التي قام بها النظام السوري وحلفاؤه من "جماعة المقاومة والممانعة" والتي طالت الأحياء والمخيمات الفلسطينية (مخيما/ حيَّا اليرموك وفلسطين في دمشق، على سبيل المثال) والاعتقالات وعمليات القتل الواسعة التي طالت الفلسطينيين السوريين، تبين كيف تحولت تلك القضية الفلسطينية، عند النظام السوري وأشباهه، إلى عصًا غليظةٍ لا تُستخدم لخدمة تلك القضية فعلًا، بل "له فيها مآرب أخرى" كثيرة، كمنحه الشرعية، والضرب بتلك العصا على يرفض تلك الشرعية المزعومة. ومن هنا نفهم ، على سبيل المثال، كيف أصبح طريق حزب الله إلى القدس يمر عبر (تدمير) القلمون والزبداني والسويداء والحسكة، مع مروره الدائم بكربلاء وتحت عباءة ولي فقيهه الإيراني.

أدرك الفلسطينيون أهمية مسألة التمثيل السياسي. وبعد عشر سنواتٍ من تأسيس منظمة التحرير الفلطينية، عام 1964، حققت المنظمة إنجازًا مهمًّا، في هذا الخصوص، حين حصلت على قرارٍ من القمة العربية التي عقدت في الرباط عام 1974، باعتبارها «الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني». وقد أهَّلها لأخذ مقعد "مراقب" في الأمم المتحدة، والتحدث باسم الشعب الفلسطيني، في المحافل الدولية. لكن ذلك لم يمنع (بعض) الأنظمة العربية من مزاحمة منظمة التحرير، أحيانًا، ومصارعتها أحيانًا أخرى، في إطار سعي تلك الانظمة إلى توظيف القضية الفلسطينية لمصالحها وأجندتها الاستبدادية الخاصة. وهكذا تحولت أو حوِّلت بعض البنادق الفلسطينية إلى بنادق للارتزاق أو للإيجار، وفق تعبير باتريك سيل في كتابه "أبو نضال: بندقية للإيجار".

وكان لاستقلال القرار الفلسطيني وحصرية تمثيله للقضية الفلسطينية ثمنًا هائلًا، وأفضى إلى علاقةٍ معقدةٍ بين الجهات الفلسطينية الممثلة للفلسطينيين و(أنظمة) بعض أو معظم الدول العربية. فإضافةً إلى استمرار مزاحمة ومصارعة بعض الأنظمة العربية لمنظمة التحرير في خصوص الحديث باسم القضية وتمثيلها، أعطى ذلك القرار مشروعيةً لفلسطنة القضية الفلسطينية وصراع الفلسطينيين مع إسرائيل، من جهةٍ، ومشروعيةً لاستقلال قرار كل بلد عربي في خصوص تلك القضية، من جهةٍ أخرى. فإذا كانت القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين، وهم وحدهم أصحاب الحق في تمثيلها واتخاذ القرارات في خصوصها، وفقًا لرؤاهم ومصالحهم وتقديراتهم، فإن ذلك الحق نفسه يعني أن من حق كل دولةٍ أن تتصرف في هذا الشأن، وفقًا لرؤيتها أو تقديرها لمصالحها الخاصة بالدرجة الأولى. وعلى هذا الأساس، يمكن أن نفهم معاهدة قيام مصر بتوقيع معاهدة كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل عام 1978. وقد تفاوتت استراتيجيات تعامل الدول أو الأنظمة العربية مع القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، لكن يمكن القول إنه ليس هناك نظامٌ عربيٌّ جعل تلك القضية قضيته الأولى، وإن معظم تلك الأنظمة، على الأقل، قد استفادت من تلك القضية أكثر بكثيرٍ مما أفادتها.

وعلى الرغم من الاعتراف العربي بحصرية التمثيل الفلسطيني السياسي للشعب الفلسطيني ولقضيته، فقد بقيت تلك القضية خاضعةً لتأثيراتٍ عربيةٍ (وغير عربيةٍ) متنوعةٍ، إيجابيةٍ وسلبيةٍ على حدٍّ سواء. ومع أن حركة حماس نفت أن تكون عملية "طوفان الأقصى أحد الردود الانتقامية" على اغتيال قائد "فيلق القدس" السابق، الجنرال قاسم سليماني، كما جاء على لسان المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني، العميد رمضان شريف، فإن النقاش حول مدى التأثير الإيراني في حماس ليس جديدًا. وليس هناك من ينكر وجود مثل ذلك التأثير، لكن ثمة خلافات حول مداه وحجمه، الكبير أو الكبير جدًّا. وثمة من يرى أن افتقاد الحضن العربي هو الذي جعل حماس، وغيرها، تلجأ إلى الحضن الإيراني. وثمة مؤشراتٌ على وجود رغبةٍ في توفير ذلك الحضن العربي مجدّدًا، لكن ليس واضحًا أو مؤكدًا مدى إيجابية ذلك أو سلبيته.

إن مسألة التمثيل السياسي للفلسطينيين كانت غير ديمقراطيةٍ (تمامًا) "في البداية"، لأسبابٍ واضحةٍ ومسوغةٍ، فمقر منظمة التحرير ونشاطها كان في الشتات، وتعرضت لضرباتٍ قويةٍ جعلتها في حالة نزوحٍ واضطرابٍ وحربٍ شبه دائمةٍ. لكن الأمور تغيرت تدريجيًّا منذ تسعينيات القرن الماضي، بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، حيث أصبح للمنظمة موطئ قدمٍ في فلسطين، أصبح هناك سلطة فلسطينية في فلسطين. وبعد فترةٍ قصيرةٍ كان فيها عملية سياسيةٍ ديمقراطيةٍ، أدى الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني إلى تأجيل/ إلغاء الانتخابات، وإلى احتكار السلطة من قبل أطرافٍ لم يعد بإمكانها الزعم بامتلاكها مشروعية تمثيليةٍ ديمقراطيةٍ، خصوصًا بعد رحيل "الختيار" ياسر عرفات الذي كان يمتلك رصيدًا شعبيًّا، بوصفه شخصيةً وطنيةً فلسطينيةً رمزيةً واستثنائيةً. وعلى هذا الأساس يمكن القول، إن امتلاك الفلسطينيين لحقهم في تقرير مصيرهم، وتمثيلهم لأنفسهم سياسيًّا، لا يواجه عقبة الاحتلال الإسرائيلي وممارساته القمعية والإجرامية فحسب، بل يواجه، أيضًا، عقبة الاستبداد والفساد الداخليين. وكما هو الحال في كثيرٍ من البلاد العربية الأخرى، تتهرب تلك الجهات الفلسطينية المتسلطة من الاستحقاقات الديمقراطية، من خلال الاتهامات والعداوات المتبادلة، ومن خلال رفع شعارات من قبيل "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". ومرة أخرى، تبيِّن الوقائع أن تلك الجهات مستعدةٌ للتضحية بالشعب الفلسطيني، باسم نصرة قضيته، أي باسم القضية الفلسطينية، ومن دون حاجة إلى استشارة هذا الشعب، من خلال عمليةٍ سياسيةٍ ديمقراطيةٍ.

والانقسامات الفلسطينية وفساد (معظم) الجهات الممثلة للفلسطينيين ولا-ديمقراطيتها ليست أمورًا ناتجةً عن البنية التي خلقها الاحتلال الإسرائيلي، فقط، بل هي ناتجةٌ، أيضًا، عن أفعالٍ وخياراتٍ سياسيةٍ، لجهات فلسطينيةٍ وغير فلسطينيةٍ. وينبغي لسلطات الأمر الواقع الفلسطينية (وغير الفلسطينية) أن تستمع إلى أصوات الفلسطينيين وتنصت لها، بدلًا من الاقتصار على التحدث باسمها. وثمة حاجةٌ ماسَّةٌ إلى إجراء مراجعةٍ نقديةٍ لأداء تلك السلطات، وتقديم كشفٍ حسابٍ عما حققته ولم تحققه للقضية الفلسطينية أو للشعب الفلسطيني. وينبغي عدم الركون إلى النيات المعلنة، الفعلية أو المزعومة. ففي الميدان السياسي، (ينبغي أن يكون) القول الفصل في الحكم على الفاعلين السياسيين هو للنتائج ولطرق تحقيقها، وليس للنوايا، طيبةً كانت أم خبيثةً،

وإذا كان العرب أكبر أمةٍ لم تحظ بحق تقرير المصير، كما يكتب عزمي بشارة محقًّا، في كتابه في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي"، فإن ذلك ينطبق على الفلسطينيين، بالدرجة الأولى وخصوصًا. ولعل "صوت المعركة الحالية" يقدم السياق الأنسب، والمحرض والمشجع على رفع الأصوات المطالبة بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وبضرورة الاعتراف، النظري والعملي، بهم، بوصفهم شعبًا مؤهلًا لأن يكون له صوته، ولأن يعبر عن نفسه سياسيًّا وديمقراطيًّا. والتعامل السائد مع القضية الفلسطينية، حاليًّا ومنذ فترةٍ طويلةٍ، يجعل (معظم) الفلسطينيين مجرد موضوعاتٍ أو أدواتٍ للتوظيف والاستغلال السياسيين والأيديولوجيين، ويسمح لأجنداتٍ ومصالح غير فلسطينيةٍ، أو مضادةٍ للمصلحة الفلسطينية، بأن تهيمن على القرار الفلسطيني. ومن هنا تنبع ضرورة أن يكون الفلسطينيون، أو يُسمح لهم بأن يكونوا، ذواتًا حرةً، تقرر مصيرها بالوسائل الديمقراطية وفي أجواء ديمقراطية. وما يمنع حصول ذلك هو الاحتلال الإسرائيلي ومن يسانده، من جهةٍ، وسلطات الأمر الواقع المهيمنة على القرار والتمثيل الفلسطينيين، من جهةٍ أخرى.