icon
التغطية الحية

فيلم "على الأعشاب الجافة".. بانوراما قاتمة عن الاغتراب والكراهية

2023.10.12 | 13:28 دمشق

فيلم
من فيلم "على الأعشاب الجافة"
+A
حجم الخط
-A

تعرض صالات إسطنبول خلال شهر تشرين الأول الجاري، فيلم "على الأعشاب الجافة" About Dry Grasses (العنوان الأصلي Kuru Otlar Üstüne) للمخرج التركي "نوري جيلان" صاحب سعفة مهرجان "كان" السينمائي عن رائعته "سبات شتوي" 2014.

وكان الفيلم قد عُرض ضمن فعاليان مهرجان كان 2022، وحصدت "Merve Dizdar" جائزة أفضل ممثلة عن مشاركتها فيه.

تميّز "جيلان" بتوجهه السينمائي الذي يدور "غالبا" حول الخيارات الأخلاقية للأفراد، مغلّفة بتساؤلات وجودية عميقة حول معنى الحياة وموقعنا فيها، مع رؤية فنية يشوبها بعض التعقيد "وهو ربما ما جعله من المخرجين غير المُتابعين جماهيريا هنا".

في شريطه السينمائي الجديد، ينحو "جيلان" كما فيلمه السابق "شجرة الإجاص البرية" نحو الإغراق في الحوارات الثنائية أو "الديالوج" الفردي، مقلّصا مساحات المشهدية السينمائية التي تميزت بها العديد من أعماله "سبات شتوي، حدث ذات مرة في الأناضول، بعيد".

جيلان
بوستر الفيلم

يدخلنا الفيلم في "حكاية" تبدو بسيطة، كعادته في أعماله الأخيرة؛ لتتشعب لاحقا، مرتكزة على فعل درامي يُجبر شخصيات الفيلم على الدخول في حوارات ثنائية، تتكشف عنها تلك المعاني الوجودية لحياتهم وأفعالهم، ضمن مساحات جغرافية تتسم بالاتساع و"الغربة" أحيانا، من حقول، أو مساحات الثلوج "التي تغطي كوادر فيلمنا هذا"، ما يجعلها "شخصية درامية" محفّزة للتأمل. وفي مدينة "أرضروم" شرق الأناضول "الكثيفة بوجود الأكراد فيها"، تتحرك شخصيات الفيلم بالعلاقة مع المكان "النائي" ترافقًا مع تطلعاتها وهواجسها تجاه الحاضر الشائك والمستقبل الغامض.

وفي مدرسة للمرحلة المتوسطة تضم الطلاب القادمين من القرى المجاورة، تتناقض أفعال وسلوك الشخصيات بشكل يشابه ما يحدث في يومياتنا. تبرز شخصية "سامت" Deniz Celiloglu، كمدرس للفنون ومحترف "أو في طريقه" للتصوير الفوتوغرافي، وهو ما سمح للمخرج بعرض سلسلة من الصور الفوتوغرافية المتلاحقة في كل مرة، مبرِزة تلك الوجوه الشاحبة والمتعبة في خضم تفاصيل يوميات بسيطة؛ شخصيات تبدو وكأنها تعيش على هامش المدن الكبرى، التي أُوليت الاهتمام الأكبر في عجلة التنمية والتطوير، وهو ما يعود إليه "جيلان" في كل مرة ليوجه نقده للحكومات التي تتعاقب على تركيا، وسياساتها التمييزية، في تلك المناطق على وجه الخصوص.

أعشاب جافة
من فيلم "على الأعشاب الجافة"

ولأن "جيلان" ينقّب في خفايا النفس البشرية في علاقتها بالجغرافيا والسياسة؛ تظهر شخصية "سامت" متناقضة ومزدوجة بشكل صارخ. مدرس للفنون يقضي فترة خدمته في مدينة ذات طابع قروي، يمر عليها فصلين في السنة، شتاء مثلج وصيف جاف؛ منتظرًا مضي سنة أخرى كي يعود إلى إسطنبول.

طلاب المدرسة القادمون من القرى المجاورة، سوف يتحملون بشكل متكرر "المزاج المتقلب" للمدرس؛ الذي يمارس تمييزا إيجابيا مع مجموعة صغيرة من الطالبات مقابل قمعه العنيف تجاه الطلاب الآخرين، وهو ما يؤدي إلى تعلّق طالبة به "سيفيم" Ece Bagci. لكن وجه "سامت" الحقيقي وتعجرفه واحتقاره للمكان الذي ينتظر الخلاص منه؛ سوف يتضح أكثر مع اتهامه بوجود علاقة غير مألوفة مع "سيفيم"، بعد اكتشاف رسالة حب في أحد دفاترها موجهة لمعلم لها "في الغالب هو"، بعد أن نلاحظ وجود تلميحات غير بريئة من قِبله. يتكشف غضب "سامت" من خلال تعاليه وخطابه المهين للطلاب، مستنكرا عليهم صنع فن "ذو قيمة" متنمرا عليهم بأنهم سيقضون حياتهم في زراعة البطاطا. وتتكشف شخصيته المخادعة في علاقاته؛ "ثرثرة" لا معنى لها مع بعض رجال القرية، صداقة مع شريكه في السكن، المعلم "كنان" Musab Ekici، و"نوراي" Merve Dizdar؛ المعلمة في مدرسة أخرى، والتي يحاول إقامة علاقة معها رغم ملاحظته للتقارب بينها وبين صديقه "كنان"، وهو ما يتمكن منه عندما يضع سيناريو لحضوره وحده في موعد عشاء كان مقررا لثلاثتهم. ورغم ابتذال فعل تقديمه الزهور إليها "الذي مرّ باهتا في الأحوال كافة" فإننا سوف نستغرق ما يقارب 43 دقيقة من عمر الفيلم في حوار بينهما، بدا وكأنه يصلح لسجال فكري لا يتحمله فيلم، انشغل خلال نصفه الأول في التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية ومكنونات الشخصيات.

تظهر "نوراي" كيسارية إيديولوجيًا، "تعاني من بتر نصف قدمها اليمنى كإشارة ربما إلى عجز اليسار التركي عن الحضور في المشهد العام في البلاد"، وهو ما يمكن تفسيره أيضا بانتهاء حوارها مع "سامت" بعلاقة جسدية بينهما بشكل "غير مفهوم"؛ فلربما تجتمع المتناقضات حين تكون الرؤية ضبابية، كما مشاهد الفيلم المحيّرة.

ورغم معرفة "كنان" ذو الشخصية الحالمة بالعلاقة، فإن ثلاثتهم يعودون للالتقاء وكأن ما حدث قد غطته ثلوج الشتاء، في لقطة غاية في السحر، حين يوصلان "نوراي" إلى بيتها في السيارة وسط عاصفة ثلجية، لتكمل الكاميرا السير بعد ذلك وسط الأعشاب والحقول الجافة الباهتة وقد دخل فصل الصيف.

لا ينتهي فيلم "جيلان" عند ذلك، إذ يعود الطلاب من جديد، ويعود "سامت" وطالبته إلى تلك التلميحات العابرة، وتعود علاقته بـ "نوراي" و"كنان" كما السابق.

انشغل الفيلم بالسجالات المعنية بموقع الفرد ومشاركته وفعاليته، والتي أظهرت انغماس "جيلان" بالإيديولوجيا على حساب الاهتمام بصنعته السينمائية التي ميزتها أعماله السابقة.  إذ أقحم "الاشتباك" بين الشخصيات على خلفية حوارات طويلة و"مناقشات" ذات طابع إيديولوجي بحت.

ثمة لقطات تستحق الوقوف، لإشكالية معانيها ورموزها. على سبيل المثال، الإضاءة المفاجئة على تمثال "أتاتورك" البرونزي في بهو المدرسة حين يتسلل "سامت" لسرقة رسالة "سيفيم"، لقطة لم تتجاوز ثوانٍ ثلاث. هل هي رسالة إلى سيطرة أيديولوجيا الدولة المستمر منذ التأسيس؟ وهناك لقطة أخرى أيضا تثير التساؤل، حين نرى صورة واضحة لرسم "الإمام علي" على حائط غرفة الجلوس في بيت "نوراي" ذات التوجه اليساري، "مفترضين وجود قطيعة لها مع أية رموز دينية".

يواصل جيلان في فيلمه هذا، الإغراق في حوار معقّد لا تحتمله "أعشابه الجافة"، حتى بدا الفيلم "كما فيلمه السابق" بمثابة "وعظ أخلاقي" يصدّر من خلاله تصوراته الفلسفية الوجودية، وإنما في قالب فني افتقد جمالية الصورة الفنية السينمائية التي ميزته سابقا، بل وبدت محاولاته في رسم خريطة شائكة للاغتراب، في غياب سياق درامي متوافق مع سلوك الشخصيات.

ينتهي الفيلم ونحن نتساءل عن أسباب منح جائزة أفضل ممثلة لـ Merve Dizdar، التي لم تظهر إلا في خمس مشاهد أو ست في أداء باهت، مقابل الأداء المذهل لبطل الفيلم "Deniz Celiloglu" والشخصيات الأخرى.