icon
التغطية الحية

فيلم "الغريب".. اللا منتمي الوجودي واللا منتمي السياسي في الجولان السوري

2021.11.05 | 09:50 دمشق

فيلم "الغريب"- تلفزيون سوريا
من فيلم الغريب
+A
حجم الخط
-A

يحيل عنوان فيلم المخرج (أمير فخر الدين)، والذي يعرض ضمن فعاليات مهرجان (أيام فلسطين السينمائية، الدورة الثامنة، 2021)، على كل تلك الشخصيات التي كتب عنها الأدب الوجودي تحت مسمى شخصية اللا منتمي. فعنوان الفيلم (الغريب) يرجعنا إلى الرواية النموذجية في الأدب الوجودي للكاتب الفرنسي (ألبير كامو) التي تحمل العنوان ذاته.

كما أن المخرج رسم الشخصية الأساسية في الفيلم بحيث إنها تمتلك خصائص متماثلة مع نمط الشخصيات اللامنتمية وجودياً في التاريخ الأدبي والفني، تلك الخصائص التي جمعها الكاتب (كولن ويلسن) في كتابه الشهير الذي حمل عنوان (اللا منتمي). وإن كانت شخصية اللا منتمي ترتبط بالسؤال الوجودي والفلسفي، فإن سيناريو (أمير فخر الدين) الذي يقع ضمن إطار الشرط السياسي والإجتماعي السوري في الجولان، فإنه يضيف لا منتمياً جديداً، وهو اللا منتمي السياسي أيضاً.

 

بوستر.jpg

 

تبدأ حكاية شخصية (عدنان) في فيلم الغريب بورقة الحرمان من الوصية التي يتلوها والده على شيخ المنطقة ليحرم ابنه من الميراث. وصية الوالد تجعل المتلقي في بداية الفيلم نافراً من شخصية (عدنان) معتقداً بعقوقه، لكننا ما نلبث مع أحداث الفيلم أن نكتشف غير ذلك. وإن رسم المخرج علاقة (عدنان) بعائلته ضمن إطار شخصية اللا منتمي، إلا أنه في الوقت عينه يبني خلال أحداث السيناريو علاقة صراع بين الأجيال، وتحديداً بين الأب والابن والحفيدة.

 

 

يرسم سيناريو الفيلم شخصية (عدنان) كرافض للحياة الإنسانية التي تعيشها الكائنات السياسية وسط المجتمع الإنساني، يتخذ موقفاً صارماً من القيم الثقافية والأخلاقية السائدة من حوله، وهو يتمتع بالشجاعة والحزم الضروريين للانعزال عنها. لأن قبول حالة النظام والعيش في ظلها لا يكفيان، وإنما هما الجبن بعينه ولا يمكن أن يؤدي مثل هذا الجبن إلى الحرية، يجب أن يواجه الإنسان الفوضى ويجب أن يحصل على نظامه الحقيقي بعد هذه الفوضى.

ورويداً رويداً، يرسم الفيلم الشخصية الغامضة لـ(عدنان) الذي لم يكمل دراسة الطب في موسكو، ليعود لاحقاً إلى بلاده من دون الشهادة المطلوبة، وهو بعيد عن عائلته، والديه وزوجته وابنته. يعيش في بيت صغير في الجرد من دون عمل محدد سوى محاولة حماية أرضه من تملّك الإسرائيلي لها، والذي دفع عربوناً لوالده للحصول عليها. ويتابع الفيلم خصائص اللا منتمي حين يجعل لعدنان رفيقاً وحيداً هو الكلب الأعرج (كوذبا)، الذي يماثل عدنان في صعوبة انتمائه إلى عالم الكلاب الذين لا ينفكون يهاجمونه لضعف جسده الفاقد لأحد الأرجل.

المكان الجغرافي المتداخل الحدود السياسية والثقافية

تجري أحداث فيلم (الغريب) في منطقة الجولان، التي وإن كان الواقع السياسي لها بأنها أراض سورية محتلة، إلا أن الفيلم يرسمها وكأنها اللامكان أو المكان "بين بين"، تقول زوجة عدنان في بداية الفيلم:  "فرنسا، هونيك في خبز طيب، ألمانيا، أيا مكان غير البقاء هنا"، والكاميرا ترصد لنا المنطقة الجغرافية من التلال في أكثر من مرة في الفيلم، هناك في العمق الجبال الثلجية، وعلى اليمين يأتي الدخان المتصاعد مع أصوات المعارك الدائرة في سوريا، وعلى الشمال هناك الطرق الملتوية في الجبال والتلال إلى ما لا نهاية.

والغريبُ للغريبِ صديقُ

تشتد كل ليلة أصوات الصراع العسكري الدائر في سوريا، ويرى الجولان سحب الدخان المتصاعد، يقول أكرم: "الله يحمي أهلنا في الوطن"، لكن الصراع العسكري الحاصل هذه المرة هو صراع بين الأهل في الوطن. يتضح أن الرأي السياسي الغالب عند أهالي المنطقة والمشايخ بأن الوطن يواجه الإرهابيين.

 

لامنتمي2.jpg
من مشاهد فيلم الغريب

 

أما الرأي السياسي لـ (عدنان) فلا نتعرفه بشكل واضح، بل نلتمسه من تصرفاته ومن أحداث الفيلم التالية، وذلك حين يكتشف عدنان وصول أحد الجرحى من الضفة السورية للحدود، وهو مصاب وبحاجة إلى المساعدة، لتطرح هذه الحبكة الأسئلة السياسية والأخلاقية على أهالي البلدة، فبينما يرى أكرم بأنه يجب معرفة الميول السياسية لهذا الجريح: "ليقوم من الدواعش!" وبذلك يتردد في المساعدة، فإن عدنان وهاني ينطلقان في ظلمة الليل لحمل الجسد الجريح وإيوائه. هكذا يضع السيناريو المجتمع المغلق أمام سؤال المساعدة الأخلاقية أو الآراء السياسية المتعلقة بالصراع السياسي على الضفة الأخرى، التي هي بالآن عينه الوطن.

إن حضور الجسد الجريح الذي يحتاج إلى المساعدة يصبح معضلة تتعلق بآراء الجماعة السياسية والأخلاقية. "يجب أن نخبر الشيوخ وأهل العرف، يجب أن نخبر الجيش الإسرائيلي لأنه يساعد الجرحى، يجب أخذه إلى السجن مباشرةً، يجب تركه لينزف حتى الموت في العراء"، كلها آراء تتداولها الجماعة حيال التعامل مع روح المساعدة التي تعرف بها عادات وأعراف المنطقة. وحده "الغريب عن الجماعة" عدنان، يتلهف لمساعدة "الغريب في انتمائه السياسي" الجريح الجديد.

 

لامنتمي3.jpg
من مشاهد فيلم الغريب

 

يأتي الغريب الأول بالغريب الثاني إلى منزله، ويحاول معالجته بمعرفته الطبية غير المكتملة، يروي الغريب الجديد للجريح حكايته، طلب منه والده قبل موته الانضمام إلى الجيش، لكنه فضل أن يحمل الكاميرا بدلاً من حمل السلاح: "أردت أن أصور لوالدي كل شيء، لأبين له أن رأيه كان غير صحيح"، إنه من تلك الشخصيات التي برزت في الحراك السوري، حاملي الكاميرا وموثقي الحدث، تتقطع الحكاية من آلام النزيف، لكنه أيضاً من أصول جولانية، نزحت عائلته إلى دمشق على إثر عدوان الـ67، ولم يبق من ذكريات العائلة إلا صورة يحملها في صدره، لشجرة كبيرة تحجب رؤيا المنزل في الصورة.

يتشابه الغريب الأول والثاني في الخصائص، كلاهما متمرد على فكر الأب، كلاهما باحث عن الأصالة في شجرة، فالشجرة في الفيلم طالما شكلت الحقيقة الوحيدة بالنسبة لهاتين الشخصيتين، الشجرة هي الحق مقابل المزيف، والجمال مقابل القبح.

يفارق الغريب الجديد الجريح الحياة، ويجتمع المختار مع الشيخ الديني لتحديد أفضل الخيارات في التعامل مع الجثة، هنا يستعيد السيناريو قوة الأعراف والتقاليد، فيقرر الشيخ الديني عن المجموعة: "بما أن هذا الغريب الجريح كانت متخفياً من الجيش الإسرائيلي، سنعتبره شهيد الوطن، ويجب أن تجرى له جنازة لائقة نعلن من خلالها عروبتنا، وانتماءنا إلى الوطن سوريا".

أسئلة الأخلاق، النضال، والبحث عن الوطن السحري

في المشهد الأخير من الفيلم، نسمع الصوت الداخلي للشخصية الرئيسية (عدنان) وهو يلقي قصيدة شعرية يخاطب فيها (ليلى)، وفي الشريط البصري نرى أن (عدنان) وصل-عثر على تلك الشجرة التي رأها في الصورة التي يحملها الغريب الجريح الذي فارق الحياة بحثاً عنها. وتقول مقاطع القصيدة التي يتلوها عدنان نهاية الفيلم:

"لا تحزني يا ليلى على غيابي،

فما زلت هنا،

أنا غريب عن هذا العالم،

والغربة وحشة قاسية،

لكنها تجعلني أفكر بوطن سحريٍ لا أعرفه.

لا أدري لم كل هذه القسوة يا ليلى،

وكيف تفتقد بعض القلوب إلى الرحمة؟

لم أعد متأكداً من شيء،

لم أعد أثق بأحد،

هل كان من الأجدر أن نرضى بلقمة صغيرة ونزهة كئيبة في هذه الدنيا؟

***

لم يعد لنا وجوه،

حاولنا رسم بعض الملامح لوجودنا،

قد تثمر غراسنا يوماً.

***

ألا تخشين أن تفقد شجرة التفاح طعمتها إن نمت في غير تربتها؟

***

قلب السجين قد يقوى على قلب سجانه،

إذاً، كيف نخاف الموت ونحن لم نحيَ بعد؟"