فيلم التقرير: وقائع تعذيب المعتقلين في سجون CIA

2020.05.13 | 23:44 دمشق

the_report_4.jpg
+A
حجم الخط
-A

هذا فيلم موضوعه التعذيب، لكننا ونحن نشاهده لن نكون مضطرين لأن نستغرق برؤية قاسية في أقبية التعذيب إلا عبر بعض الاستدعاءات من ذاكرة الصفحات الاستخبارية السرية التي ربما لن يستطيع أحد من الجمهور أن يطلع عليها!

وفي المقابل سنجد أنفسنا كمشاهدين منغمسين بعمق في التفكير بقانونية الإجراءات التي نفذتها وكالة الاستخبارت المركزية الأمريكية بعد هجمات 11 من أيلول، من أجل اعتقال من خطط لها، وكذلك محاولة تجنب حدوث هجمات مماثلة في المستقبل!

الإجراءات التي سميت بوسائل "الاستجواب المعزز" كانت تقوم على ممارسة الضغط الجسدي على السجين الذي يتم التحقيق معه، من أجل دفعه للإفصاح عما يمتلكه من معلومات، أي أنه كان على المحققين أن يقوموا بتعذيب السجناء! فإذا كان اختراع تسمية مختلفة لجوهر هذه الوسائل لا يكفي لتنقيتها من التبعات غير القانونية لمقترفيها، فإن قيام مؤسسة تحاول حماية الأمن القومي للولايات المتحدة بهذه الأفعال، يعني فيما يعنيه أن الدولة التي تشرّع عمل هذه المؤسسة ولا تحاسبها على ما تقترفه هي شريكة به، وبالتالي فإن أحداً ما وبخط منحدر من رأس هرمها إلى أسفله سيتحمل مسؤولية السماح بتعذيب المعتقلين والسجناء، وهذا ما تحرص كل المؤسسات ذات الصلة على تبيان الوقائع المؤدية إليه!

الإجراءات التي سميت بوسائل "الاستجواب المعزز" كانت تقوم على ممارسة الضغط الجسدي على السجين الذي يتم التحقيق معه،

الفيلم الذي كتبه وأخرجه سكوت بورنس، وقامت استوديوهات (أمازون) بإنتاجه  ( 2019) يقدم فرضية للفيلم لا تأتي من الخيال، بل إنها تستند إلى وقائع حقيقية حدثت في الولايات المتحدة خلال الفترة الممتدة بين عامي  2005  و2014، وربما لم تنته فعلياً، حينما جرى تكليف عضو لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ دانيال جونز، ليبحث في وقائع التجاوزات التي تمت في سياق عمل الـCIA على ملاحقة الإرهابيين من أعضاء تنظيم القاعدة، الذين خططوا وشاركوا في تنفيذ هجمات 11 من أيلول الدامية، ففي معتقل غوانتنامو، وفي معتقلات أخرى حول العالم، وفي "مواقع سوداء" في بلدان ظلت أسماؤها مجهولة حتى الآن، كان محققو الوكالة يقومون بتعذيب المعتقلين لانتزاع المعلومات منهم!

ولكن أي من السجناء الـ 129 الذين مورست عليهم سبل "الاستجواب المعزز" لم يقدم معلومات مفيدة تحت تعرضه للتعذيب، لا بل إن العنف الجسدي الذي كانوا يتعرضون له كان يقودهم إلى تقديم معلومات مضللة للمحققين، إذ إنهم وفي محاولة للنجاة من جولات الأذى الجسدي والنفسي الذي يتعرضون له، قاموا بنسج سلسلة من المعلومات الكاذبة، وبما يرضي المحققين الذين يهرعون بدورهم إلى مديريهم فرحين بما حصلوا عليه، وبما يخلق هالة نجاح زائفة حول هذا البرنامج غير الأخلاقي، والذي لا تسمح به قوانين الولايات المتحدة ذاتها!

هنا ومن خلال جعل الفيلم السينمائي مادة وثائقية حينما يقدم تصوراً عن وقائع أو سلسلة أحداث جرت على أرض الواقع، فإن لقطة من فيلم (Zero Dark  Thirty ) الذي صدر في العام 2012 للمخرجة كاثرين بيجلو تمر أمام عيني دانيال جونز، كانت كافية لأن تعيد للمشاهدين من أصحاب الذاكرة البصرية القوية، كيف تم تسويق ادعاء سابق يقول إن العثور على معلومات وخيوط تقود إلى مخبأ أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة إنما حصل بناءً على جدوى "الاستجواب المعزز"، وهذه واحدة من ادعاءات الوكالة في دفاعها عن نفسها، ففيلم بيجلو يُفتتح بمشاهد تعذيب تقوم على صدم المستجوب وكذلك إيهامه بالغرق، وهذه أساليب كانت في صلب المخالفات التي عرض فيلم التقرير في 2019 إثباتاتها للجمهور، بالاستناد إلى الوقائع الفعلية التي سعى إلى كشفها المحقق دانيال جونز، ونجح في النهاية بالوصول إلى ذلك!

وبالتالي فإن هذا الفيلم يتضاد هنا وبقسوة مع فيلم بيجلو، ويبدو أن هذه الواقعة السينمائية الملفتة تكشف ذلك المنحى غير البريء الذي تتورط فيه السينما، وهي تلهث وراء جعل الانتصارات موضوعاً لها!

ركّز الفيلم في سياقه الدرامي على المعاملة السيئة التي تعرض لها المُعتقل السابق أبو زبيدة (سعودي الجنسية) أثناء احتجازه. فبحسب الوثائق التي وصلت ليد دانيل جونز وفريقه  فإن "أبو زبيدة البالغ من العمر آنذاك 44 عاماً فقد إحدى عينيه، وتعرّض لمحاكاة الإغراق 83 مرة خلال شهر واحد"، ثم أمضى في غوانتانامو مدة تسع سنوات ولم توجّه له أي اتهامات.

ينجح دانيال جونز في الوصول إلى المعلومات التي تفضح قيام الوكالة بإنفاق 80 مليون دولار من أموال دافعي الضرائب على صناعة موت، أدت إلى مقتل أشخاص بسبب العنف الشديد الذي تعرضوا له، بعد أن تم اتهامهم بالانتماء إلى تنظيم القاعدة دون أن يتم إثبات ذلك!

كما يكشف في جوانب كثيرة عن قيام الوكالة بتنفيذ الأمر ذاته بيد آخرين، مثل أجهزة الأمن في بلدان أخرى حول العالم، هنا يذكر المتابعون كيف قامت الوكالة ذات مرة بإرسال أحد المشتبه بهم وهو ماهر عرار المواطن الكندي من أصل سوري إلى وطنه الأصلي ذاته، ليقوم الجهاز الأمني سيء الصيت الذي يحمل اسم (فرع فلسطين) بتعذيبه، في سبيل الحصول على المعلومات منه، ما أدى في النهاية إلى فضيحة كبرى للحكومة الكندية، جرى كشفها لاحقاً وانتهت بحصول الضحية على حكم قضائي ببراءته، حيث قررت الحكومة الكندية تعويضه ب8.9 مليون دولار كتعويض عن الضرر الذي حصل له بسبب خطأ أجهزتها الأمنية في تقديم المعلومات للأمريكيين، إضافة إلى اعتذار رسمي له ولعائلته!

لقد أدت حالة الهياج والخوف من تكرار حدوث الهجمات الإرهابية إلى دفع الوكالة إلى فعل أي شيء، من أجل ألا يوضع تقصيرها الذي أدى إلى الكارثة أمام الجمهور، ولكنها تجاوزت المسموح القانوني، فوقعت في المحظور الأخلاقي.

هذا ما انتهى إليه تقرير دانيال جونز، وبسبب الصراع السياسي الداخلي بين الكتل الحزبية في مجلس الشيوخ، وكذلك التعارض بين سياسات أوباما وبين سياسة سلفه جورج بوش الابن، حيال مسائل حساسة كقضية التعذيب واحتجاز السجناء في غوانتنامو، تحول التقرير (تجاوز عدد صفحاته الـ 7000) وضرورة نشره، إلى عقدة استعصى حلها على الجهات المسؤولة كوزارة العدل ومجلس الشيوخ والبيت الأبيض وانتهاءً بالوكالة! ولكن الجهود التي بذلها عضوا الكونغرس  داين فاينشتاين وجون ماكين  نجحت في النهاية بنشر ملخص عن التقرير بحسب السياق الذي يتوقف عنده الفيلم.

ينجح دانيال جونز في الوصول إلى المعلومات التي تفضح قيام الوكالة بإنفاق 80 مليون دولار من أموال دافعي الضرائب على صناعة موت

غير أن الوقائع التي لم تُذكر هنا حدثت بعد عامين، عندما أعلن أوباما أنه لن يقوم برفع السرية عن التقرير، ولكنه سيحتفظ بنسخة منه في المكتبة الرئاسية. بعد أن قرر إبقاء مواده سرية لمدة 12 سنة!

وبحسب التقرير الإخباري الذي نقلته وكالة الصحافة الفرنسية آنذاك عن الموضوع، فإن حفظ التقرير في السجلات الرئاسية خطوة ضرورية، خوفاً من إمكانية أن تقوم إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بتدمير كافة نسخ التقرير، حيث إن الجمهوريين سعوا بعد توليهم رئاسة لجنة الاستخبارات في عام 2015، إلى جمع نسخ التقرير بكاملها.

بينما طالب الديمقراطيون بنشر التقرير بكامله، خوفاً من مسعى الجمهوريين لتدميره، حيث طلب السناتور الديمقراطي رون وايدن من الرئيس أوباما وضع الدراسة في السجل العام، ورفع السرية عن نسخة منقحة، مشيراً إلى إمكانية أن تقوم إدارة ترامب بإعادة استخدام التعذيب، فالشعب الأميركي وبحسب وايدن "يستحق فرصة لقراءة التاريخ بدلاً من رؤيته مغلقاً في خزنة لـ 12 عاماً".