icon
التغطية الحية

فيلم "أوبنهايمر".. السينما غير قادرة على منح صكوك الغفران

2023.08.04 | 15:24 دمشق

أوبنهايمر
+A
حجم الخط
-A

يقدم المخرج البريطاني "كريستوفر نولان" فيلمه الأخير "أوبنهايمر" كسيرة ذاتية وسياسية لمرحلة الحرب العالمية الثانية، متكئا على سيرة العالم ومخترع أو "والد" القنبلة الذرية "ج. روبرت أوبنهايمر".

مساحة كاملة من الرؤية يقدمها "نولان" لشخصية وحياة أوبنهايمر، غير مكتفٍ بالتركيز على كيفية توصله لصناعة القنبلة الذرية ودوافعه كذلك الأمر.

يمتلئ الفيلم بالشخصيات العلمية والسياسية في مرحلة امتدت من أوائل الثلاثينيات حتى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، حتى يكاد العمل "ينفجر" بذلك العدد الهائل من الشخصيات في تلك المرحلة.

اوبنهايمر
بوستر الفيلم

حياة "أوبنهايمر" العلمية لا تختلف كثيرا عن غيره من العلماء الذين ظهروا في أثناء مرحلة الحروب الكبرى. فقد ازداد هوس الدول والقادة في اختراع أسلحة دمار شامل مع نشوب الحرب العالمية الثانية التي ستفرز "نظاما عالميا جديدا حينها"، ولذلك فقد تم تجنيد العلماء للأطراف المتصارعة في الحرب.

اخترع علماء ألمان عام 1939 "الانشطار النووي"، ليكون المفصل المحرك لما أطلق عليه "السباق النووي" بين ألمانيا النازية آنذاك ومحور الحلفاء. ومع هجوم القوات اليابانية على ميناء "بيرل هاربر" سوف تدخل الولايات المتحدة الحرب، وهو ما دفع بالرئيس "روزفلت" إلى توحيد جهود العلماء لمحور الحلفاء لصنع "القنبلة الذرية". من هنا أتى "مشروع مانهاتن" الذي ضم الآلاف من علماء دول المحور تحت قيادة العالم الأميركي "أوبنهايمر"، والذي كانت نتائجه صنع القنبلة الذرية وقصف مدينتي "هيروشيما وناغازاكي" اليابانيتين.

قدّم "نولان" شريطا سينمائيا شبه توثيقي لتلك المرحلة، لكنه لم يقتصر على ذلك الجانب المهني لحياة أولئك العلماء و"أوبنهايمر" بشكل خاص، بل حاول التعمق في الاهتمامات الشخصية والسياسية والعامة لهم.

يرسم "نولان" شخصية أوبنهايمر منذ بداية المشاهد الأولى للفيلم كمقدمة لمحاولة "تبرئته" أو محاولة توضيح الفصل بين الجانب العلمي والأخلاقي لديه، وهو يعمل على صنع سلاح قادر على تدمير البشرية. وهو في ذلك، يستخدم السيناريو المعهود في أفلام هوليوود: حياة شخصية متقلبة، علاقات غرامية وزواج غير مستقر، وخيالات ترافق هذا النمط من الشخصيات/ العلماء، الذي يفترضون حسن النية من السياسيين والعسكريين!

لسنا هنا في صدد محاكمة أخلاقية لشخصيات تاريخية لكننا لا نستطيع إعلاء شأن من أودى بحياة الملايين من البشر منتصف القرن الماضي، أو نسيان جملة "أوبنهايمر" الشهيرة: "الآن أنا الموت، أنا مدمر العالم".

صحيح أن الفيلم يظهر سيطرة القادة السياسيين ومحاولة تحكمهم بمشروع مانهاتن النووي، لكنه بالمقابل يغفل مواقف كثير من العلماء الذين شككوا وتوجسوا من الاستخدام اللاعقلاني للقنبلة الذرية، وبالكاد نرى إشارة هنا أو هناك إلى رفض بعض العلماء "كتيار" استخدامها ضد البشر، وكذلك تنويها يمر خلسة لانسحاب العالم البولندي "جوزيف روتبلات" من المشروع مبكرا.

ينشغل الفيلم "المشغول بحرفية وتقنية سينمائية مذهلة" بتوضيح عدة مسارات:

الأول، هو المعاناة الشخصية لأوبنهايمر، الباحث عن معنى الأشياء والمعارف العلمية الممكنة، والثاني هو معاناته ومعضلته الأخلاقية بعد أن تم استخدام القنبلة على البشر في اليابان، أما المسار الثالث فهو طرده من المشروع وعدم تجديد تصريحه الأمني عام 1954 ليتم حرمانه من العمل في مشروعه العلمي، بعد محاكمة إدارية شكلية مقررة لاستبعاده.

مسارات يحاول الفيلم في كل مرة إظهار الجانب المهني أو الأخلاقي لأوبنهايمر، من دون الدخول إلى عوالمه الداخلية في جدل جدوى اختراعه النووي ونتائجه كذا الأمر.

وسوف تمر بعض المشاهد والأفعال الدرامية، وهي حقائق عن أوبنهايمر، من دون التوقف قليلا عندها، كمحاولته تسميم أستاذه في جامعة كامبردج "بسبب عدم أخذ تصوراته العلمية على محمل الجد"، أو تسببه في انتحار عشيقته "غير المتوازنة نفسيا" بإبلاغها قراره عدم رؤيتها "حتى لا يتضرر وضعه في مشروع مانهاتن"، وهو الذي ظهر بأنه غير متفاجئ بشكل كبير لحظة إبلاغه بانتحارها.

ربما تكون تلك الأحداث محض يوميات تتشابه بين الكثيرين، لكن أن يُدخلنا "نولان" في موجة تعاطف أخلاقي مع الشخصية، فإن هذا يبدو مبالغا به بشكل غير مبرر. فالسينما لا تستطيع تحمل وزر منح "الغفران" لمن ساهم في صنع سلاح قادر على تدمير الكون، حتى وإن افترضنا أن ذلك هو شغف علمي بحت، إذ إن الطريق إلى جهنم "مرصوف بالنوايا الحسنة" عادة.

أظهرت سلسلة من المشاهد "أوبنهايمر" وهو يخاطب جموع العلماء والمهتمين "الفرحين والمبتهجين بتجربة إلقاء القنبلة على المدينتين اليابانيتين"، ويرى فيهم وجوها مشوهة بفعل آثار القنبلة "كموقف رافض لما حدث"، في الوقت الذي كان يستطيع به "نولان" عرض الوجوه اليابانية الحقيقة التي شوهها وقتلها الانتصار العلمي المبهج لأوبنهايمر. وبدلا من أن يغامر المخرج بصنع مشاهد تقنية للانفجار النووي، نتساءل هنا: ألم يكن من الأجدى لو تم عرض اللقطات الحقيقية لذلك الانفجار؟ أم أن السينما أيضا باتت معنية بطمس الذاكرة وصنع ذاكرة بديلة.

مع ذلك، يستمر أوبنهايمر "صاحب المعضلة الأخلاقية" في الاستجواب ردا على تهم تورطه بالعلاقة مع الشيوعيين "المرحلة المكارثية"، في رغبة منه للحصول على تصريح أمني يخوّله مواصلة تطوير أعماله العلمية.

وسط هذه المسارات والتداخلات والتناقضات في شخصية أوبنهايمر التي أخرجها لنا "نولان"، لا نستطيع نسيان حضور "أينشتاين" في الفيلم وفي معادلة صنع القنبلة، وهو الذي حذّر "روزفلت" من اكتشاف معادلات الانشطار النووي لدى الألمان وتخوفه من امتلاك "هتلر" لسلاح فتاك، وكذلك حضوره المتكرر كأب روحي علمي لأوبنهايمر.

فيلم
أوبنهايمر مع أينشتاين في الفيلم

لسنا هنا في صدد محاكمة أخلاقية لشخصيات تاريخية، لكننا لا نستطيع إعلاء شأن من أودى بحياة الملايين من البشر من منتصف القرن الماضي. وكذلك لا نستطيع وسط هذا كله نسيان جملة "أوبنهايمر" الشهيرة حين تم التوصل إلى صنع القنبلة الذرية: (الآن أنا الموت، أنا مدمر العالم).

وفي هذا الصدد يحضرنا ما قاله المفكر "ريتشارد ويكارت" في كتابه "موت الإنسانية" أن "غرف الغاز في أوشفيتز" وغيرها تم ترتيبها في مكاتب العلماء والفلاسفة العدميين".

فيلم أوبنهايمر لكريستوفر نولان، لا يمكن الحديث عنه بشكل فني بحت من دون التدقيق في رسالته، في هذا التوقيت من التاريخ، الذي يدمر العالم يوميا بأشكال مختلفة عن طريق أنواع متنوعة من الأسلحة. فالفيلم على المستوى الفني هو مواصلة لمسيرة "نولان" المذهلة في الإخراج وأسلوبه في التصوير، مع الثناء الكبير على أداء الممثلين لا سيما Cillian Murphy في شخصية أوبنهايمر.

فيلم