icon
التغطية الحية

فيلم "أنا القبطان".. الشتات الإفريقي في دروب الهجرة

2024.01.27 | 14:36 دمشق

آخر تحديث: 27.01.2024 | 14:36 دمشق

لقفا
من فيلم "أنا القبطان"
+A
حجم الخط
-A

تتنوع مسببات القهر الذي تعانيه شعوب الدول الفقيرة والمحكومة بديكتاتوريات منذ عهود استقلالها؛ ما يدفع الكثير من سكانها إلى البحث عن طرق للخلاص، لحياة جديدة أو تتبع حلم لا يجدون في بلادهم ما يدفعهم لتحقيقه.

هكذا، اشتدت موجات الهجرة إلى أوروبا في العقد الأخير، من شعوب لما تزل تعاني من قهر وظلم وحروب أهلية، أضعفت أسباب الحياة لدى الكثير من أفرادها.

يختار المخرج الإيطالي "ماتيو غاروني" Matteo Garrone قارة إفريقيا، بتعقيداتها السياسية والحياتية، في فيلمه "أنا القبطان" Io Capitano 2023، ليقدم ثنائية "الموت والنجاة" لشخصيات متنوعة من دول إفريقية، أنهكتها الحروب الأهلية والأنظمة القمعية، في طريقها صوب أوربا؛ "الفردوس" المتشكل في أذهان هذه الشعوب.

اف
بوستر الفيلم

ولأن "غاروني" هو من جيل المخرجين "الإيطاليين" الذين أسهموا في توضيح معاناة شعوب القارة السمراء ودوافعهم للهجرة نحو أوروبا، إيطاليا بشكل خاص "كمحطة أولى غالب الأحيان"؛ فقد لجأ إلى أسلوب "الواقعيةالسحرية" الذي اشتهرت به السينما الإيطالية، تحديدا (ف. فيلليني) Federico Fellini كأيقونة سينمائية.

وبما أن الواقع الحياتي الذي يعيشه الأفراد في الدول الإفريقية والدول المشابهة، ودوافع اللجوء لديهم، تم تناوله في العديد من الأفلام الأوربية بأسلوب واقعي، فإن "غاروني" يستخدم أسلوبا يمزج بين الواقعية والخيال مستندا إلى تراث إفريقيا المحلي.

في واحد من أشد الأحياء فقرا في العاصمة السنغالية "داكار"، يحلم يافعان "موسى وسيدو" بالهجرة نحو أوربا لتحقيق حلمهما بتنفيذ مشروعهما الغنائي. ولأن الناس مهمومين بالبحث عن لقمة عيشهم، فإن هذا الحلم يغدو ترفا زائدا عن الحاجة ولا مكان له في يوميات الأسر المنشغلة بتحصيل قوتها؛ ما يدفع بالشابين للتخطيط للهجرة إلى أوربا، حيث الأحلام تتحقق، ويطلب "الأفراد البيض توقيعنا"، على ما يقول "موسى".

ووسط غضب أم "سيدو" وتحذيرات المحيط لهما بأن طرق التهريب تنتهي بموت غالبية المهاجرين، وأن أوربا (باردة وهناك الكثير ممن ينامون في الشوارع)؛ يلجأ "غاروني" إلى تقديم مشهد يستعيد فيه نبوءات العرّافات في الميثولوجيا القديمة (أوديسيوس)، حين يلجأ اليافعان إلى ساحر محلي يتنبأ بنجاحهما في المغامرة. وبما أن قرار الهجرة، مع قصص الموت المرافقة له، فإنه بحاجة إلى "سريالية" وفاتنازيا، وظّفها المخرج باعتماده على التراث المحلي في مشاهد الشابين مع "الساحر".

قصص القهر الدافعة للهجرة متشابهة، ونحن نرى النساء الحوامل والرجال الكبار في السن والشباب من مختلف الأعمار والدول وهم يغامرون بحياتهم نحو الأمل بحياة جديدة

يستقل المهاجرون حافلة متوجهة إلى الحدود مع دولتي مالي والنيجر، بهدف الوصول إلى ليبيا والهروب عبر البحر من هناك. يتم خداعهم أكثر من مرة، جوازات سفر مزورة، وحشية في التعامل من قبل المهربين في كل محطة، تيه في الصحراء الكبرى في الطريق إلى طرابلس، قبل أن يقود "سيدو" قارب العبور المحمّل بالمهاجرين صوب إيطاليا.

لا ينشغل "غاروني" بتقديم التجارب الشخصية لجموع المهاجرين الأفارقة المتواجدين في مغامرة اللجوء بقدر ما ينظر إلى الرحلة/ المغامرة بعيون الشاب "سيدو"، وإن كنا نشاهد شخصيات كثيرة دون أن نعرف تاريخها ومسببات قرارها بالهجرة.

وبما أننا نعرف "كما المخرج" أن ما خلّفته دول الاستعمار في القارة السمراء من أنظمة قمعية وحركات تمردية واستقرار أمني لم يتحقق حتى الآن؛ فإن قصص القهر الدافعة للهجرة متشابهة، ونحن نرى النساء الحوامل والرجال الكبار في السن والشباب من مختلف الأعمار والدول وهم يغامرون بحياتهم نحو الأمل بحياة جديدة.

يمزج "غاروني" في فيلمه بين المأساة والخيال. سوف نشاهد في تفاصيل كل مرحلة من رحلة الهجرة، القهر والوجع والألم بأشكال متنوعة، لكن مع الاستعانة دائما بـ "الخيال" والفانتازيا التي تساعد "سيدو" على مواصلة المغامرة. وهنا، فإن اختيار شخصية الفيلم الرئيسة في سن السادسة عشرة، أتاح للمخرج الاستناد إلى عنصر البراءة، بل و"السذاجة" للفتى؛ كسمة شخصية تعينه على إكمال رحلته، بالاتكاء إلى الخيال والتهيؤات "الفانتازية".

تمر مواقف الاستغلال والمهانة والرعب أمامنا بالتوازي مع حلم "سيدو" بالوصول إلى "الأرض الموعودة" وإيجاد صديقه "موسى" الذي تم سجنه في محطات سابقة من قبل عصابات المتمردين في الحدود المتداخلة هناك.

وفي كل محطة سوف يعاني المهاجرون من صنوف شتى من القهر الجسدي والمعنوي. يلجأون إلى إخفاء أموالهم في "مؤخراتهم" خوفا من السرقة، لكنها كانت حيلة قديمة وأُجبروا على إخراجها وتسليمها للميليشيات العسكرية المسيطرة. يُعذّبون في مراكز احتجاز تابعة للمافيات في جنوب ليبيا. يُباع "سيدو" كعبد مع رجل آخر إلى متعهّد بناء لدى شيخ قبيلة هناك، في مشهد يقول بأن سوق الرقيق لم ينته بعد، وأن العنف الذي يمر به سكان تلك الدول يتيح المساحة لعودة أشكال الاستغلال البدائية التي عانوا منها على مرّ تاريخهم. يموت الكثير من المهاجرين في الصحراء الكبرى، جثث غمرتها الرمال، لا يجدي معها نفعا مساعدة أحد للآخر، ليتدخل "غاروني" هنا ويقدم الخيال والسحر لشتات إفريقي لم ينته مع خروج المستعمر الأوربي.

ىف
من الفيلم

ويحسب للمخرج "الإيطالي" اعتمادة على التراث الثقافي الإفريقي في تقديمه للخيال والفانتازيا، إذ يصوّر الملائكة بأجنحة مصنوعة من الريش وليس على غرار مشاهد الملائكة في السينما الأوربية أو الأميركية، وتطير امرأة توفيت بعد محاولة "سيدو" إنقاذها في الصحراء، وهي تمسك بيده في مشهد يمتزج فيه الواقع بالخيال.

في ختام الفيلم، يتقصد المخرج ألا نرى وصول قارب المهاجرين إلى اليابسة ونجاح المغامرة الشاقة لمن تبقوا، وإنما احتفال "سيدو" بقدرته على تجاوز الرحلة وهو قبطان لقارب النجاة، فقد تركزت فكرة الفيلم على تصوير تلك الرحلة على أنها "ملحمة" بنكهة إفريقية، أكثر من انشغاله بالحلم الأوربي أو بمعاناة المهاجرين الأفارقة وقت وصولهم هناك.

يمكننا أن نغالي في لوم المخرج على إهمال تفاصيل دوافع المهاجرين للجوء، أو عدم تنويهه ولو بمشهد أو حوار يبرز دور سياسة أوروبا في بقاء هذه الشعوب مقهورة عبر حكامها وجنرالاتها، لكن دوافع "غاروني" يبدو أنها تتجاوز ذلك لتقديم  رؤيته حول البعد الإنساني للشخصيات، بشكل منفرد لكل شخصية، بعيدا عن تناول المهاجرين ككتلة واحدة في خطاب سياسات الهجرة الأوربية والميديا التابعة لها. وهو ما يتوافق مع تصريح "غاروني" بأنه:"اعتدنا في هذه الأعوام على فكرة أن المهاجرين مجرد أرقام ونسينا أن وراء هذه الأرقام أناسا، وهؤلاء هم عائلات، لهم أحلام وأرواح".

نال "غاروني" جائزة الإخراج عن الفيلم في مهرجان البندقية 2023، وكذلك الشاب السنغالي "سيدو سار" على جائزة أفضل ممثل واعد.