فرنسا دولة فاشلة!

2023.07.07 | 06:59 دمشق

  فرنسا دولة فاشلة!
+A
حجم الخط
-A

أحداث العنف التي تشهدها فرنسا منذ مقتل الفتى نائل برصاص ضابط شرطة متهور أو عنصري، لا نعرف حقيقته، ليست الأولى من نوعها في البلاد خلال السنوات والعقود الماضية، وتكرارها يشير إلى خلل جليّ في سياسة استيعاب المهاجرين، حتى أولئك الذين ولدوا وترعرعوا على التراب الفرنسي، وحصلوا على الجنسية الفرنسية، فما بالك باللاجئين الجدد الذين وصلوا قبل سنوات معدودة مثل اللاجئين السوريين.

وبطبيعة الحال، لا يمكن تفسير ما حصل من احتجاجات اشتملت على صدامات مع الشرطة وعمليات تخريب واسعة طالت الممتلكات العامة والخاصة، على أنه مجرد رد فعل على مقتل فتى برصاص الشرطة، بل هو تعبير عن احتقان عميق لدى شرائح واسعة من الشباب، خاصة أبناء المهاجرين من مناطق المغرب العربي وإفريقيا ممن يحملون نقمة جماعية على فرنسا لأسباب تتعلق بموروثات تاريخية تتصل باستعمار فرنسا لبلدانهم، وشعورهم المتوارث بأن لا مِنَّةَ لفرنسا في استقبالهم وتقديم الخدمات لهم، بل هي تدفع جزءا يسيرا من دين عليها لبلدانهم، وأسباب أخرى تتعلق بفشل الحكومة والقوانين الفرنسية في استيعاب هؤلاء الشبان التي تشير المعطيات إلى أنهم يشكلون المحرك الأساسي للاحتجاجات الحالية، كما في السابقة، وتحديدا أولئك الذين يعيشون بلا أفق للمستقبل بسبب عدم انخراطهم في سياق التعليم أو العمل أو التأهيل المهني، فوجدوا أنفسهم في الشارع ينتظرون المساعدات الاجتماعية، ويعملون غالبا بـ"الأسود" أي خارج القانون، وكثير منهم وقع فريسة المخدرات والأعمال غير المشروعة.

يجد هؤلاء الشبان أنفسهم محرومين من ارتياد هذه الأماكن، وتسوق بضائعها، كون أغلبهم عاطلين عن العمل، ويعيشون على المساعدات الاجتماعية التي لا تكاد تؤمن لهم المستلزمات الضرورية البسيطة

ولعل اتجاه هؤلاء الشبان إلى اقتحام وتحطيم ونهب المطاعم والبنوك والمؤسسات الكبرى التي تحمل ماركات معروفة وباهظة الثمن مثل "زارا" و"آبل" ومتاجر الملابس الرياضية الشهيرة مثل "نيك" إضافة إلى المحال التجارية مثل "كارفور" و"لوكلير" و"ليدل"، ومطاعم ماكدونالدز وغيرها، يفسر جانبا من خلفيات هذه النقمة، حيث يجد هؤلاء الشبان أنفسهم محرومين من ارتياد هذه الأماكن، وتسوق بضائعها، كون أغلبهم عاطلين عن العمل، ويعيشون على المساعدات الاجتماعية التي لا تكاد تؤمن لهم المستلزمات الضرورية البسيطة.

وخلافا لدول أوروبية أخرى، فإن نظام الاستيعاب في فرنسا يعتبر "اعتباطيا" كما يصفه العديد من المتابعين، ولا سيما من ناحية التعليم، إذ لا يعتبر إلزاميا إلا لمرحلة معينة متدنية المستوى، أما الانخراط في التأهيل المهني وسوق العمل، فيأتي وسط شكاوى لا تجد من يصغي إليها بأن دورات التأهيل "الفورماسيون" فاشلة وشكلية ولا تؤهل من ينخرط فيها لممارسة العمل، برغم المبالغ الطائلة التي تدفعها الدولة للمؤسسات التي تقيم هذه الدورات، وهذا جزء من حلقات الفشل وربما الفساد، والتفكير البيروقراطي الذي ترزح تحته الدولة الفرنسية.

في كل حي يقطنه أبناء المهاجرين لا بد أن تعثر في أية ساعة من النهار أو الليل على العديد من الشبان ممن تركوا المدرسة ويتسكعون في الطرقات وعلى المقاهي، يبحثون عن سيكارة حشيش أو يحاولون تدبر ثمن علبة دخان أو حتى علبة كوكاكولا، ويتحدثون بمرارة عن معاناتهم المفترضة مع مؤسسات الدولة سواء المسؤولة عن المساعدات أم التوظيف والتأهيل، وهؤلاء سيجدون ضالتهم إذا اندلعت لسبب ما أعمالُ عنف أو فوضى، إذ سرعان ما ينخرطون فيها بغض النظر عن خلفيتها وأسبابها.

أضف إلى ذلك، فإن القوانين السارية في البلاد، تحدّ كثيرا من سلطة الآباء على أبنائهم، ولا يستطيع الأهل استخدام الشدة في توجيه أبنائهم، حيث يتم سحب الأطفال من عائلاتهم في حال تقدم الطفل أو أي جهة أخرى بشكوى ضد الأهل، وتسليمهم إلى دور رعاية أو إلى أسر فرنسية يعيشون عندها.

لم تحاول أية حكومة فرنسية العمل بجدية على استيعاب مجتمعات المهاجرين، فضلا عن اللاجئين، داخل المجتمع الفرنسي، وما زالت تنظر إليهم من منظور أمني يحمل في طياته بعض العنصرية غير المعلنة

وفضلا عن الشبان اليافعين، فإن ذويهم يعيشون أصلا فيما يشبه الغيتوات المنعزلة عن المجتمع الفرنسي، سواء في ضواحي العاصمة باريس حيث وقعت حادثة قتل الفتى نائل، أو ضواحي المدن الأخرى الكبرى مثل مرسيليا وليون وستراسبورغ، ما خلق ما يمكن تسميته مجتمعات موازية داخل فرنسا، تعيش على الهامش، وتمارس أدنى الأعمال في المصانع والوظائف المؤقتة، أو تعيش على المساعدات الاجتماعية.

وحتى الآن، لم تحاول أية حكومة فرنسية العمل بجدية على استيعاب مجتمعات المهاجرين، فضلا عن اللاجئين، داخل المجتمع الفرنسي، وما زالت تنظر إليهم من منظور أمني يحمل في طياته بعض العنصرية غير المعلنة، وتتشدد في المقابل في تطبيق "علمانية بلهاء" تلاحق المحجبات وتضيّق على المساجد، من دون محاولة التعمق في فهم هذه المجتمعات أو استيعابها على أسس صحيحة، وليس ضمن المفهوم الشائع الخاطئ والذي يستخدم مصطلح "الاندماج"، لأنه ليس مطلوبا، وغير ممكن عمليا، دمج فئات من الناس مختلفة لغويا وثقافيا ودينيا، في مجتمع آخر، فلن يقبل معظم الناس التخلي عن جذورهم الثقافية كليا، بل يكفي أن يحترموا القوانين السائدة، وينفتحوا على المجتمع الفرنسي بروح طيبة، ولا ينبغي أن يكونوا مطالبين بأكثر من ذلك.