غياب الصحافة المحايدة.. ثنائية الأخيار والأشرار

2023.06.06 | 18:27 دمشق

غياب الصحافة المحايدة.. ثنائية الأخيار والأشرار
+A
حجم الخط
-A

لا يحترم القارئ السوري عموماً ما يكتبه رجال الإعلام، ولا المؤسسات الإعلامية، لأنه لا يثق بهم، ولا بكل طبقة المثقفين، أو الصحفيين أو صناع الرأي، وعدم الثقة هذا مُبرّر ومفهوم، فالمؤسسات أو الأشخاص الذين لا يحترمون مصداقيتهم ومهنيتهم، لايمكن أن يؤسسوا لثقة القرّاء بهم، وبالتالي فإن العلاقة التي تنتج عن غياب هذه الثقة، هي أشبه بزواج الإكراه المستمر بتواطؤ غير معلن، ومعادلته الأساس هي التكاذب.

كان الأمر قابلاً للتفسير، عندما كانت الصحافة والإعلام بكل وسائله تأتمر بأمر الحاكم، وتسترزق من عطاياه، ولا تكون إلا برضاه، لكن لماذا لم تتغير المعادلة حين قامت الثورات، وحين أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي كسر معادلة احتكار الإعلام، والتغييب وكتم الأصوات، والاعتقال. ولماذا لم يحاول من أسكتهم سيف السلطان وعسسه مرغمين أن يؤسسوا لمعادلة ثقة جديدة بين القارئ والإعلام، وما يهمني الحديث عنه في هذا المقال بشكل رئيسي ليس الإعلام التابع للنظام، وإنّما الإعلام المصنف على أنه إعلام نقيض له؟

التبرير المتداول هو أن هذه الأصوات لا يمكنها مواجهة مؤسسات الإعلام الضخمة التي تدعمها تكتلات مالية كبيرة، وبالتالي فإن الشروط المعيقة لا تزال كما هي، وإن كانت بصيغ أخرى، وقد يبدو هذا التبرير مقنعاً للوهلة الأولى، لكنه حتى بامتلاكه بعض الحقيقة، إلا أنه يخفي الجانب الأهم منها.

في الصحافة السورية أو في الإعلام السوري عموماً، سواء الرسمية منها أو غير الرسمية، لم تجد الصحافة المحايدة فرصة للحياة حتى يومنا، ولم يزل معظم العاملين في هذا المجال محكومين بمعايير غير مهنية، يلجؤون إليها سواء أكانوا مرغمين أو بكامل حريتهم، ولعل أكثر هذه المعايير انتشاراً، وأشدها تأثيراً هي ثنائية "الأخيار/ الأشرار"، أو "الأبيض/الأسود"، لكأنّما الصحافة تتطلب موقفاً سياسياً ما يجب إعلانه منذ البداية، سواء بالانحياز لهذه الضفة أو تلك!!

 منذ بداية الثورة السورية غابت مهنة الصحافة الحقيقية عن الحدث السوري، وكان هذا متوقعاً ومعروفاً من الجهات الإعلامية التابعة للنظام، وأيضاً كان هذا مفسّراً في الضفة الأخرى، عندما تحول عدد كبير من الناشطين غير المختصين إلى إعلاميين، ومن الطبيعي في هذه الحالة عدم وجود إعلام محترف ومحايد، لكن لماذا استمرت هذه الفوضى حتى اليوم، ولماذا لم نصل بعد كل ما حدث إلى إدراك أهمية الصحافة المحايدة والمهنية، كبوابة رئيسية لاستعادة الثقة بين طرفي الإعلام (إعلام/ متلقي)، وكعامل رئيسي في صناعة رأي عام متوازن وغير منفعل؟

في مناصرة القضايا العادلة، يكون الإعلام المحايد والمهني والموثوق حجر الأساس في انتصار هذه القضايا، وعندما تغيب هذه الصفات، فهذا يعني خسارة معركة بالغة الأهمية، وفي وظيفة الإعلام لا تخضع الأخبار المنقولة إلى التصنيف طائفياً، أو سياسياً، أو عسكريا إلخ، بل تخضع لمعيار أساسي هو معيار المهنية والحقيقة، والشرط الأساسي لأي إعلام حقيقي، هو كونه خارج معادلة الاصطفافات، قد يكون هذا الكلام نظرياً، وغير قابل للتحقق، لكنه يشكل جوهر الإعلام حتى لو لم نوافق عليه، وبالتالي فإن السعي لتحقيقه هو الأهم، بالمقابل إن تكريس انحياز الإعلام، وعدم حياديته يعني هزيمته.

أوصلتنا معادلة الأخيار والأشرار إلى صناعة جمهور متطرف في تقييماته، يتهم، ويُكفّر ويُجرّم من يختلف مع معاييره، والصادم في الأمر أن هذه المعايير الخاطئة ساهم بصنعها الإعلام نفسه، ويمكننا أن نرى في معظم تفاصيل العمل الإعلامي الهجوم العنيف الذي يتعرض له الإعلام المحايد، وكأنه أصبح من البديهي أن يقدم أي إعلامي جردة حساب لمواقفه السياسية، قبل أن يكتب ما يختلف مع السائد، أو أن يكتب ما يتعارض مع معادلة الأخيار والأشرار.

في خضوع الصحفي لثنائية الأخيار والأشرار، فإنه مضطر لإخفاء بعض الحقيقة، أو تزويرها، أو المبالغة فيها، وقد يضطر إلى اختلاق ما هو غير موجود، وفي كل هذه الحالات هناك خروج فاضح عن مهنيته كصحفي، هذا ما دفع السوريون ثمنه باهظاً، فكما غيّب إعلام النظام حقيقة ما يحدث عن أتباعه، غيّب إعلام المعارضة حقائق كثيرة بالغة الأهمية عن مناصري الثورة.

لا يمكن لإعلام غير صادق أن يناصر قضية مهما كانت عادلة، وهو إن استطاع التأثير لفترة ما، إلا أنه سيدفع ثمن عدم مهنيته، وستدفعه أيضاً القضية التي يناصرها، وهذه السردية المحددة مسبقاً، والتي ترسم دائماً نهايات محسومة تذهب إلى أحد طرفي معادلة الأخيار والأشرار، يجب التوقف عنها، فنقل الحقيقة والصدق بنقلها هو جوهر الفعل الصحفي، أما المواقف والأحكام فلها حيزها الآخر وحقلها الآخر، أما تفصيل الوقائع وليّ عنق الحقيقة كي تنسجم مع موقف سياسي، هو أيضا هزيمة أخرى تضاف إلى سلسلة هزائمنا.

عندما تنقل خبراً عن "النظام"، ليس من حقك كصحفي أن تسقط موقفك منه على الخبر، وهكذا الأمر على من تصنفهم ضد النظام، فتغطيتك على حقيقة الخبر المتعلق بهم، هو أيضاً ليس من حقك كصحفي، وعندما تتناول حدثاً يشي بتصنيفات طائفية، أو قومية، أو مذهبية..إلخ، انتبه جيداً إلى الوجه الذي يستبطنه تناولك، وهل يخدم ماذهبت إليه الحقيقة أم يخدم الاستقطاب الحاد الحاصل في المجتمع السوري؟ وهل هناك قوة أكثر تأثيراً من صحافة مهنية ومحايدة في كسر هذا الاستقطاب الحاد، وفي صناعة رأي عام سوري، حيال مختلف الأمور التي تخص السوريين؟

ليست الصحافة حقيقة فقط، إنها مسؤولية أيضاً، ونحن عندما فقدنا حيادنا في الحديث عن قوى المعارضة، وفي حديثنا عن منظمات المجتمع المدني التي نمت كالفطر ونخرها الفساد، وعندما كنا غير موضوعيين في تناولنا لأحداث وقعت في مناطق خاضعة لسيطرة النظام، فإننا ساهمنا جميعا في خلق ما وصلنا إليه اليوم وغرقنا جميعاً في لعبة الاستقطاب والتصنيف. ليست مهمة الصحافة أن تحدد من هم الأخيار ومن هم الأشرار، ونحن لسنا أخياراً خالصين، ولسنا أشراراً خالصين، والحقائق يجب أن تظل حاضرة إن كنا نسعى لخلاصنا والصحافة هي المسؤولة أولاً عن إظهار وحماية هذه الحقائق.