عودة واشنطن إلى المنطقة هل تفرمل اندفاعة التسوية في الإقليم؟

2023.06.08 | 06:06 دمشق

عودة واشنطن الى المنطقة هل تفرمل اندفاعة التسوية في الإقليم؟
+A
حجم الخط
-A

تشكِّل الحركة الصاخبة والضجيج بعد حجيج قمة "جدة"، مَلئاً للوقت الضائع على المستوى الإقليمي تجاه لبنان والتسوية الرئاسية فيه، ومفاتيح الحل المعقدة في سوريا، وهنا بيت القصيد، ومعهما الاندفاعة السعودية التي أصابتها البرودة بعد صدمة اجتماع "أوبك+" ومحاولة تجاوزها، والذي تعوِّل عليه الرياض كثيراً في مشاريعها التوسعية اقتصادياً في المنطقة.

ففي لبنان، يأتي الرئيس نتيجة لتوازنات القوى المحلية والإقليمية والدولية، والطرف الأقوى يكون له دور أكبر في التسمية. واليوم تلعب القوى السياسية في الوقت الضائع إقليمياً، بعد أن حصَّلت قوى المعارضة وقوى التغيير والمستقلين على شبه اتفاق أو إجماع على ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور، كمرشح جدِّي في وجه الثنائي الشيعي الداعم لترشيح سليمان فرنجية، بعد أن فقد هذا الأخير قوة الدفع الفرنسية له، وتراخي قبضة باريس إثر زيارة البطريريك بشارة الراعي ولقائه ماكرون، فصار رئيس مجلس النواب نبيه بري، بعد أن كان متهكماً على مرشحي المعارضة بعدم جديتهم، محْرَجاً محلياً وأمام العالم، بعد أن رُفِعت عصا العقوبات المالية الغربية بوجهه، ومجبراً على دعوة البرلمان لانتخاب رئيس، وعدم حصرها بخيار واحد وحيد (أي فرنجية)، ولو أنّه لن تؤدي حتماً إلى انتخاب الرئيس العتيد، بانتظار ما استجد في الإقليم والاندفاعة الأميركية تجاه الرياض وطهران، حيث سيكون الإيرانيون أكثر مرونة لمراعاة المطالب السعودية في ما يتعلق بأمن المملكة، أما بما يتعلق بالملفات الإقليمية المتشابكة، كاليمن والعراق وسوريا ولبنان، ستكون هناك هوامش من المرونة لدى الطرفين، وهذا ما يفسّر الهدوء السعودي والبرودة في التعاطي مع الملف اللبناني حالياً، وترك باب الحل موارباً في سوريا.

فوزير الخارجية الأميركية أنطوني بلينكن، وصل السعودية، وقبل انطلاقه صعَّد من خطابه ولهجته في اجتماعه مع الأيباك بوجه إيران، وتلحقه بعدها وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، وهذا يدل على أن الحركة الأميركية تريد صبَّ اهتمامها حالياً على الملف النووي الإيراني وما يتعلق بإسرائيل، وكذلك يبدو أن وزيرة الخارجية الفرنسية المحمَّلة بملفين: واحد  لبناني، وآخر له صلة بالنووي الإيراني، عقب عقْدِ أول لقاء أميركي وإيراني مباشر للمسؤول الأميركي بشأن ملف المفاوضات مع إيران روبرت مالي، وممثل البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة، وهذه إشارة مضافة على التحول في الموقف الأميركي في المفاوضات القائمة تجاه قضايا المنطقة العالقة، وما يتعلق بأذرع طهران في الإقليم.

الأزمة السورية لم ولن تُحل في بيان ختامي من هنا أو هناك، فهي قضية تتعلق بمصير شعب وشرعية نظام مفقودة، لا عودة عنها تحت أية تسوية مهما كانت الضغوط والتقاطعات الإقليمية والدولية

من ناحية ثانية، عاد الحراك إلى الملف السوري، لتكثيف الاجتماعات الحاصلة للمعارضة في الخارج، واللافت كان تصريح المدير العام للملف السوري في الخارجية التركية السفير كورهان كاراكوتش، من أن عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم لن تكون إلاَّ في نهاية العملية السياسية، وجاء ذلك أثناء اجتماع هيئة التفاوض السورية المنعقدة في مدينة جنيف السويسرية، وكذلك لقاء نائب مساعد وزير الخارجية الأميركية في جنيف مع هيئة التفاوض السورية وتشديده دعم الولايات المتحدة لعملية سياسية شاملة بموجب قرار مجلس الأمن 2254 والدور المهم للمعارضة في أي جهد لإنهاء الأزمة السورية. وأيضاً إصرار هيئة التفاوض السورية واعتبارها جنيف المكان الطبيعي للتفاوض تحت إِشراف الأمم المتحدة، مع ممثلي الدول المعنية بالملف السوري، للتباحث بشأن ملفات تتعلق بمستقبل الشعب السوري، وعلى تحقيق الانتقال السياسي والعملية السياسية وتطبيق القرار 2254، لإيجاد حل سياسي عادل، وتحت غطاء الشرعية الأممية. وهذه تطورات تشي عكس الصورة القاتمة التي ظهرت في اجتماع القمة العربية في جدة، وعودة النظام السوري إلى الجامعة العربية. إذ أن الأزمة السورية لم ولن تُحل في بيان ختامي من هنا أو هناك، فهي قضية تتعلق بمصير شعب وشرعية نظام مفقودة، لا عودة عنها تحت أية تسوية مهما كانت الضغوط والتقاطعات الإقليمية والدولية، خاصة بعد إعادة انتخاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو ما يفتح الباب أمام دور جديد لأنقرة، ضمن معادلات جديدة تتعلق بالشرق الأوسط، من دون أن ننسى ربط المشروع الاقتصادي والتجاري في المنطقة بين السعودية وتركيا من خلال شبكة أوتوسترادات وسكك حديد عبر العراق.

بدورها، إذا نجحت مصر بإقامة هدنة طويلة في غزة، تكون منطقة ساحل شرق المتوسط هادئة نسبياً، بعد تجربة الترسيم البحري اللُّبناني مع إسرائيل، وهذا يتطلب إعادة إنتاج سلطة لبنانية جديدة لا تنتمي إلى أي محور في الإقليم، تشكل مساحة اطمئنان لكل القوى السياسية، أولها حزب الله وفق تفاهمات يصيغها الأميركي مع طهران بعد إنجاز الملف النووي، ولذلك المواقف السعودية هادئة تجاه لبنان واستحقاقاته، بسبب الملفات المتشابكة وعلى كثرتها خصوصاً الإقليمية منها، وهذا بدوره يشكل مدخلاً أساسياً في لبنان للبدء بتفاهمات وإيجاد حلول للأزمة السورية.

وسط هذه الأجواء، تريد الرياض استكمال اندفاعتها في الإقليم بعدما تخلصت من عبء اجتماعاتها بأوبك+، الذي عُقد في فيينا، وشابته أجواء عصبية وتوترات وخلافات بين كبار المنتجين فيه (السعودية وروسيا) ارتبط بخفض إضافي للإنتاج، وبالتغيُّر في خريطة الأسواق، مع ما تقدمه موسكو (خارج أوبك+) من مغريات في تخفيض لأسعار النفط للمشترين وللصناعات الآسيوية المتعطِّشة، وهو ما وضع الرياض في موقف ومأزق كبيرين. على الرغم من تفاؤل المنظمة بتوقعات الطلب على الخام لهذا العام بما يزيد بنحو 2.3 مليون برميل يومياً، فقد أتت رياح الاقتصاد العالمي بما لا تشتهي سفن الإقليم، فالمتغيرات الاقتصادية العالمية المرتبطة بضعف النشاط الصناعي حول العالم، والإنفاق الكبير للحكومات والأفراد، أدى إلى تراجع الطلب على النفط، وبالتالي تعرض الأسعار لمزيد من الهبوط، وهو ما أزعج السعودية، كأكبر مصدر للنفط في العالم والتي قادت خطوات عدة لـ"أوبك+" لخفض الإنتاج، من أجل دعم الأسعار للحيلولة دون مواجهة عجز مالي، في ظل مشاريعها التنموية الطموحة.

عبَّر مسؤولون سعوديون عن انزعاجهم من سياسات روسيا، وطلبوا التزام موسكو (المثقلة بالعقوبات الغربية) بتعهدها بخفض إنتاج النفط. إذ تشتري دول آسيوية، مثل الصين والهند، النسبة الأكبر من صادرات النفط الروسية

فالإحباط السعودي سببه أن المملكة تخسر حصتها في آسيا، والتي تُعدُّ أهم مستورد للنفط في العالم، وفشل تخفيضاتها في رفع أسعار النفط، بسبب أن سقف الأسعار المفروض على النفط الروسي، حفّز الصين والهند على طلب المزيد من الخام الروسي، خاصة مع الحصول على معدل خصم كبير، لتنتزع روسيا حصة أكبر من سوق النفط العالمية على حساب السعودية، لذلك، عبَّر مسؤولون سعوديون عن انزعاجهم من سياسات روسيا، وطلبوا التزام موسكو (المثقلة بالعقوبات الغربية) بتعهدها بخفض إنتاج النفط. إذ تشتري دول آسيوية، مثل الصين والهند، النسبة الأكبر من صادرات النفط الروسية، فيما السعودية تحتاج إلى أسعار أعلى لموازنة ميزانيتها، بما يصل إلى ثمانين دولاراً للبرميل بالنسبة للرياض.

إذن، كل هذه المعطيات بدورها، كانت كفيلة في فرملة اندفاعة التسوية في الإقليم، قبل أن تتوضح صورة المواقف الأميركية على حقيقتها، بتحييد الدور الصيني المباشر في حرب أوكرانيا قدر الإمكان، ومحاولة نقل المعركة إلى داخل روسيا بالمسيرات الأوكرانية الصنع، وتعيد محاولات الإشراف على ترتيب  المنطقة بعد انتهائها من كابوس الاتفاق على رفع سقف الدين إلى 2025، وتتفرغ واشنطن أكثر للعمل على ضمان أمن إسرائيل في ظل المعادلات الإقليمية الجديدة، بما يخفِّف من وهْج الحضور الإيراني في المنطقة، وهذا يتطلب الوقت والعدة اللازمة والمتوفرة، وهو ما سيأكل حتماً من رصيد النظم الحاكمة في لبنان وسوريا وكشفها أكثر، بعد وضعها أمام امتحانات صعبة تتعلق بسيرورة وجودها من عدمه.