عن بلاد تحترق ورئيس مسخ

2020.10.18 | 00:09 دمشق

5f85602b4c59b746176dbac4.jpg
+A
حجم الخط
-A

في الذكرى الخامسة لبداية الاحتلال الروسي المباشر والمعلن لسوريا، والذي صادف في نهاية الشهر المنصرم، أجرت وسائل إعلام روسية مقابلات مع رأس النظام السوري "بشار الأسد"، وفي كل إجاباته التي قدّمها، لا يمكن لأيّ متتبع أن يلمح أو يقرأ أي إشارة إلى حزن ما، أو ألم ما ينتاب هذا الشخص الذي يُسمى "رئيسا" لبلدٍ، يعيش أفظع مأساة عرفتها البشرية بعد الحرب العالمية الثانية.

منذ عشر سنوات وبشار الأسد يكرر جمله ذاتها، وأسطوانته التي قرفها وملّها السوريون والعالم كلّه، عن المؤامرة، والإرهاب، والجيش، وإعادة السيطرة، وكل هذا الهراء السخيف، لكأنّ سوريا ليست تحت خمسة احتلالات، ولكأنّ الروس الذين أعلنوا أن الساحل حصتهم، والأميركيون الذين اقتطعوا الشمال الشرقي من سوريا، حيث النفط والغاز، وخلقوا حليفاً وأداة لهم في تلك المنطقة، والأتراك الذين سيطروا على الشمال والشمال الغربي من سوريا، ويرّسخون كل يوم ما يجعل من سيطرتهم طويلة الأمد، وإسرائيل التي ابتلعت وهضمت هضبة الجولان السورية، وتستعد لابتلاع مساحات إضافية أخرى، وإيران التي تُحاصص في الوسط والجنوب.. كلّ هذا ليس له أهمية عند بشار الأسد، ولا يبعث في نفسه أدنى إحساس بالمسؤولية، ولا يمكنك إيجاد أي تغير في حديثه، أو انفعالاته، منذ لحظة وراثته الفضيحة لرئاسة سوريا، وحتى وصول سوريا إلى هذه المأساة الوطنية الكبرى.

لا يهتم بشار الأسد بالحقائق التي يعيشها السوريون، ولا بالواقع المرِّ الذي يغرقون فيه كلهم بلا استثناء، كأنّ جوعهم ليس أمراً غريباً، أو انقطاع الكهرباء والغاز والمازوت، والبنزين، والماء لا يستحق الإحساس بالعار والهزيمة، وكأنّ وجوه السوريين الغارقة في الحزن والانكسار، حدثٌ عابر ليس له أدنى أهمية.

منذ أن ثار السوريون، وصرخوا في شوارع مدنهم وبلداتهم، مطالبين بحياة حرّة، كريمة، بدأت أتابع معظم أحاديث بشار الأسد ولقاءاته، كنت في كل لقاء له أحاول أن أجد بعض الحزن في تعابير وجهه، أو في نبرة صوته، يعكس قليلاً من المأساة التي تعيشها سوريا، أو حدا أدنى من التعاطف مع السوريين المنكوبين، لكنّي في كل مرة، كنت أنتهي من متابعتي مصدوماً ومصعوقاً، كان الميل للمزاح والضحك هو الغالب، وكان الانفعال الوحيد الذي يمكن للمتابع ملاحظته، هو غضبه عندما يذهب الحديث إلى اتهام شخصي له.

من يتذكر اللقطات المصوّرة التي ظهر فيها، وهو يقود سيارته في أحياء دمشق المدّمرة، أو يمشي فيها محاطاً بجنوده في داريا أو مناطق أخرى، كان منظر الدمار يدمي القلب، بيوت على مدى العين مدمّرة، ومهجورة، ومحروقة، لا يُمكن لإنسان أن يراها، إلا ويغصّ بحزنه ودمعه، وحده كان يعبر بها ممتلئاً بنشوة انتصار زائف، يُمازح مرافقيه، ويتفاصح بتعليقات وملاحظات غبيّة، يهزّون لها رؤوسهم ببلاهة واضحة.

منذ عدة أيام، قام بشار الأسد بجولة ميدانية، في المناطق التي طالتها الحرائق في محافظتي اللاذقية وطرطوس (لن أطيل هنا عن الأرقام التي أوردتها الجهات المختصة الرسمية، والتي تحدثت عن كارثة بيئية واقتصادية، فقد طالت الحرائق 237 قرية وبلدة في المحافظتين، وما يزيد عن سبعة آلاف هكتار من الأراضي المشجرة - معظمها

يحدثونه عن الخبز، فيحدثهم عن الصمود، يسألونه عن الكهرباء، والماء، والمازوت، فيحدثهم عن الانتصار، وفي خلفية الكاميرا التي تصور هذه المهزلة، كان منظر الجبال السوداء التي التهمتها النيران

من الأشجار المثمرة - فقط في محافظة اللاذقية)، قلت لنفسي أن الأمر هنا سيكون مختلفاً، فهو يزور مناطق تصنّف على أنها مؤيّدة له، وهي مناطق منكوبة، وهدف زيارته هو التعاطف مع سكانها، والتخفيف عنهم في مأساتهم التي التهمت مصادر رزقهم، وأضافت إلى كوابيس حياتهم كابوساً جديداً، أشدّ مرارة ورعباً.

كانوا يتجمعون حوله، أطفال، وفتية، ورجال، ونساء... يتكلمون كلّهم، ورغم محاولات إظهار فرحهم به، إلا أن عيونهم وثيابهم وحركات أيديهم، كلّها كانت تفصح عن حزنهم، وانكسار أرواحهم.

كانوا يحدثونه عن وجعهم، وجوعهم، وخسارة مصادر رزقهم، وكان يتفاصح كأنّه في معركة كلامية.

يحدثونه عن الخبز، فيحدثهم عن الصمود، يسألونه عن الكهرباء، والماء، والمازوت، فيحدثهم عن الانتصار، وفي خلفية الكاميرا التي تصور هذه المهزلة، كان منظر الجبال السوداء التي التهمتها النيران، فتفحّم كلّ شجرها، تُحيل المشهد كلّه إلى كوميديا سوداء، متخمة بالعبث والعدم.

عاد بشار الأسد من جولته تلك إلى قصره، الذي بُني من عرقهم، وعادوا إلى بيوتهم المحروقة، وإلى طعم الرماد في حلوقهم، وإلى هوائهم المشبع برائحة أشجارهم المحروقة، لكنهّ وقبل أن ينام، أصدر أمره بمنح كل قرية منكوبة مساعدة بقيمة أربعة آلاف دولار، ليست للتعويض عن خساراتهم، بل ليجتمعوا ويقرروا مشروعاً ما لقريتهم، أية مهزلة هذه؟!

ذكرني "عطاء" بشار الأسد هذا بالعطاء الذي أعلنته بثينة شعبان، في محاولتها رشوة السوريين عشية اندلاع المظاهرات في آذار 2011م، عندما خرجت لتزف للسوريين خبر زيادة رواتبهم، بمقدار ثلاثة آلاف ليرة شهرياً.

لم يفهم بشار الأسد لحظة واحدة حقيقة ما يحتاجه السوريون، ولن يفهم، فهذه البلاد التي اسمها "سوريا"، ليست بنظره وطناً لشعب عريق، وموغل في القدم، وليس لهذا الشعب بنظره أي حقوق، فهم عبيد في مملكة عائلته، وما يعيده لهم من أموالهم التي نهبها منهم، هو عطاء ومنّة.

البلاد المستباحة المحتلة، البلاد المدّمرة، البلاد المحروقة، السوريون المشتتون في أصقاع الأرض كلّها، صور السوريين المقتولين تعذيبا في سجونه، الطوابير الطويلة من أجل رغيف الخبز، أو جرة الغاز، أو ليترات قليلة من البنزين، كل هذا وغيره الكثير، لم يغير شيئاً من تعابير وجهه أو كلماته الحمقاء، ولم تقلل من نظرات البله في عينيه.

كأنّما هذه البلاد ليست بلاده، وكأنّما ولد هذا الكائن المسخ بلا قدرة على الإحساس.