عميان "ساراماغو" ومبصرو كورونا.. عندما تعرّينا الرواية

2020.05.03 | 00:13 دمشق

424.jpg
+A
حجم الخط
-A

جالساً خلف مقود سيارته يعد الثواني منتظراً اللون الأخضر مِن إشارة المرور ليعبر إلى منزله، لكن فجأة يتحوّل كل شيء إلى الأبيض فلا أحمر ولا أخضر، تعلو مِن خلفه أبواق السيارات وأصوات سائقيها طالبين منه التحرّك، والرجل في ذهول لا يدري ما الذي أصابه، تجمّعوا عليه وأخذ يكرّر ويصرخ بهم " أنا أعمى.. أنا أعمى".

هكذا ابتدأ الروائي البرتغالي "جوزيه ساراماغو" روايته الشهيرة الحائزة على جائزة نوبل للأدب في عام 1998 "العمى".

رفض المُصاب استدعاء سيارة الإسعاف ورجاهم أن يصحبوه إلى منزله القريب، تطوع أحدهم للمساعدة وإيصال الرجل مُبيّتاً بكل وضاعة نية سرقة السيارة مِن الرجل الأعمى بعد توصيله، لكنه وبعد نجاحه بسهولة بسرقة السيارة لن يلبث أن يصاب بالعمى هو الآخر.

تُسرع زوجة المصاب الأول بالعمى بالذهاب إلى عيادة طبيب يدخل المصاب ويفحصه الطبيب ويفاجئ بأنّ جميع أنسجة عينيه سليمة ويؤكّد أنّه لم يسمع بعمى أبيض حليبي كالذي أصاب الرجل. في تلك الليلة يصاب الطبيب بالعمى وهو يبحث في مراجعه وكتبه عن أي شيء يهتدي به ليكشف عن خبايا هذا الداء. تلاه كل المرضى الذين كانوا في عيادته عندما أتاه الأعمى الأول (الطفل الأحول والكهل ذو العين المعصوبة والفتاة ذات النظارة السوداء بالإضافة إلى الصيدلي الذي اشترت منه قطرة لعينها المصابة بالتهاب خفيف في الملتحمة ورجل آخر كانت قد واعدته في فندق قريب) جميعهم أصابتهم العدوى وأصبحوا يرون كل شيء أبيضا حليبيا.

ينتبه الطبيب للأمر ويبادر إلى إبلاغ السلطات أنّه قد فحص مريضاً مُصاباً بنوع غريب مِن العمى ويخشى أنّ هذا المرض معدي، تقرّر الحكومة بدورها الحجر على كل المصابين بهذا العمى في مشفى مهجور للأمراض العقلية لا يصلح لإيواء حيوانات منعا لـ تفشّي المرض.

هكذا يمضي أبطال الرواية إلى محجرهم بظل حراسة عسكرية مشدّدة وتعليمات صريحة بإطلاق الرصاص على كل مَن يحاول الهرب أو يقترب من السور، وبعد دخولهم بدأت التعليمات تذاع عليهم بشكل منتظم عبر مكبّر للصوت فهموا منها أنه لن يتدخل أحد لـ مساعدتهم تحت أي ظرف وأنه يجب عليهم تدبّر أمرهم بأنفسهم.

مع الانتشار السريع لداء العمى الأبيض، هذا الوباء غير المفهوم والذي ينتقل مِن المصاب إلى السليم بمجرد النظر، ازداد عدد المرضى في المشفى شديد الحراسة وبلغ بضع مئات ومع ازدياد عددهم بدأ المرضى الاقتتال على الطعام وبدأت القيم والنظم الإنسانية والاجتماعية بالسقوط والانهيار سريعاً إلى أن بلغت القاع عندما تشكّلت عصابة مِن العميان أنفسهم داخل المستشفى ترأسها رجل يملك مسدساً، وبدأت بالاستيلاء على الطعام.

غير أنّ ضمن كل هؤلاء العميان تقبع سيدة بجوار زوجها تَدّعي العمى، رفضت أن يعاني زوجها الطبيب وحيداً في المحجر فادّعت العمى وانساقت معه إلى المستشفى.

ينقل لنا "ساراماغو" مِن خلال عينا زوجة الطبيب ما يجري حولها مِن أحداث في هذا العالم الأعمى متحملة لكل الفظائع والمآسي التي آلت لها أحوالهم فتقول رافضة لما يراه الآخرون نعمة وميّزة: "ماذا يعني أن نكون مبصرين في عالم كل مَن فيه عميان، أنا لست ملكة، بل أنا ببساطة تلك الإنسانة التي ولدت لترى هذا الرعب، بوسعكم أن تشعروا به غير أنني أشعر به وأراه".

تقايض العصابة الطعام بما لدى المرضى مِن مال وغيره مِن الأشياء الثمينة التي جلبها المصابون معهم إلى المحجر إلى أن أفلس الجميع، فطلبت العصابة استباحة النساء في كل غرفة مقابل حصول تلك الغرفة على حصة مِن الطعام، وبعد جولات من الاستعباد الجنسي لم تسلمها منها أيّ امرأة، تقتل زوجة الطبيب بعد تردّد وخوف زعيم العصابة بمقص كان في حقيبتها، ينشب على إثر هذا صراع بين العصابة وبين أولئك الذين لم يرضوا الطعام مقابل شرف نسائهم وفضّلوا الجوع على الكرامة، لينتهي الصراع بحريق يدمر المشفى وينجو منه أبطال "ساراماغو" وينجحوا بالهرب إلى خارجهِ بقيادة زوجة الطبيب ليكتشفوا المفاجأة، فلا الرقيب موجود ولا جنوده، جميعهم هربوا أو أنهم قد عموا كما جميع المدينة.

تصحبهم زوجة الطبيب إلى بيتها تطوف بهم في طريقها شوارع المدينة الغارقة بالفوضى وتكاد لا تصدق ما ترى، يصلون منزل الطبيب وزوجته التي تحمل على عاتقها مسؤولية إطعامهم فتخرج باحثة عن الطعام بين الدكاكين والمخازن التي لم تطلها أيدي العميان الآخرين الذين يسيرون في جماعات باحثين عن الطعام في كل مكان حيث يبيتون في المكان الذي يجدون فيه ما يُؤكل إلى أن ينتهي، فيغادرون إلى مكان آخر وهكذا يمضون في حياتهم الجديدة.

"دعونا لا ننسى ما كانت عليه حياتنا هناك في المحجر، فقد انحدرنا إلى الدرك الأسفل مِن المهانة، كل أنواع المهانة، حتى وصلنا درجة الانحطاط الكامل، يمكن أن يحدث الأمر ذاته هنا.."

بحب وعطف وروح العائلة أطعمت زوجة الطبيب ضيوفها في منزلها وسقتهم ومن ماء المطر غسلت ثيابهم وساعدتهم على الاستحمام وأعطتهم ثيابا نظيفة من خزانتها وخزانة زوجها، مستحضرة ما كانوا فيه من مهانة ومآساة فتقول (تذكرهم): "دعونا لا ننسى ما كانت عليه حياتنا هناك في المحجر، فقد انحدرنا إلى الدرك الأسفل مِن المهانة، كل أنواع المهانة، حتى وصلنا درجة الانحطاط الكامل، يمكن أن يحدث الأمر ذاته هنا، وإن يكن بطريقة مختلفة، هنالك كنا نزعم أن الانحطاط هو نتيجة أفعال الآخرين، لكن الآن جميعنا نميّز وعلى التساوي بين الصالح والطالح، أرجوكم لا تسألوني ما هو الصالح والطالح فلطالما كنا نعرف ما هما عندما كنا ننظر للقيام بفعل ما حينما كان العمى استثناء".

في المشهد الأخير مِن الرواية تدخل السيدة مع زوجها الطبيب كنيسةً لـ ترتاح وتسكن روحها قليلاً، تدخل الكنيسة فيملؤها خشوع ورهبة لكنها تتفاجئ أن جميع العيون في الكنيسة قد غطيت بلصاقات بيضاء، ابتداء مِن الرجل المثبّت بمسامير على الصليب والمرأة التي بجواره وانتهاء بكل العيون التي في الصور التي تزيّن جدران الكنيسة وكأن السماء قد تخلّت عنهم لما وصلوا إليه من انحطاط وبؤس وقذارة غرق بها سكان المدينة بينما استمرت الكلاب والأرانب والدجاج بحياتهم بشكل طبيعي.

بالجمل الطويلة المتواصلة وأسلوب السرد ذهاباً وإياباً صاغ "ساراماغو" ملحمة العمى بلا زمان ولا مكان محددين ودون أسماء لأبطاله ومع القليل مِن الوصف البصري وتركيز على الأصوات والروائح أوصل "ساراماغو" قارءه إلى رمزياته التي تضمنتها الرواية عبر حوارات العميان المتداخلة المتشابكة.

يعود البصر للناس فجأة كما بدأ العمى، فيبصر المُصاب الأول بالعمى ويتبعه بالتدريج باقي المصابين. ويختتم "ساراماغو" الرواية بحوار بين الطبيب وزوجته يتساءلون فيه عما جرى دافعاً إيّانا إلى التفكّر والتأمل، فيقول على لسان زوجة الطبيب: "لا أعرف لماذا عمينا فربما نكتشف الجواب ذات يوم. أتريد أن أخبرك برأيي. نعم أخبريني. لا أعتقد أننا عمينا؛ بل أعتقد أننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم في الحقيقة لا يرون".

وها هو العالم اليوم يؤكّد لـ "ساراماغو" ولو بعد رحيله أنه كان محقاً عندما عرّاه مِن زيفه وقال عميان ترى ولكن لا تبصر، فبرغم كل ما وصل إليه مِن تقدم علمي وتكنولوجي سمى بالحضارة البشرية، إلا أنّه عند أول أزمة إنسانية حقيقة اجتاحت العالم كما في فيروس كورونا المستجد، سقطت عنه كل القيم الإنسانية والحضارية التي تغنّى بها ليل نهار وبان عريه ونفاقه. فأُفرِغت المخازن مِن المنتجات الغذائية والأطعمة في أيام معدودة، واقتتل الناس على مستلزمات النظافة الشخصية في أوروبا وأميركا وعلى الخبز في تركيا، وتُرِك كبار السن لـ يَموتون في دور رعايتهم في إسبانيا، وسمعوا خبر انتحار ممرضة إيطالية نتيجة للوضع المؤسف الذي عايشته فلم تستطع أن تكون زوجة الطبيب وتحتمل وقع هذا الوباء، بل أضافوا إلى كل ذاك، عنصرية مقيتة وتنمّر لـ يكتمل فيهم العري والخزي وتتحقق نبوءة "ساراماغو" فيهم بأن أصبحوا عمياناً يستطيعون الرؤية ولا يبصرون.

كلمات مفتاحية