عشية حرب عالمية ثالثة

2023.03.24 | 06:27 دمشق

عشية حرب عالمية ثالثة
+A
حجم الخط
-A

يبدو العالم وكأنه عشية حرب عالمية ثالثة. هي قائمة عملياً ولكن بشكل غير مباشر. وإلى جانب صراعها العسكري فيها صراعات كثيرة لا تخلو من الصراع الفكري بين منظّريّ ومطلقي نظرية الدياليكتيك على تناقضهما، بين هيغل الذي يؤمن بروح التاريخ والتي لا بد لها أن تتجه نحو الأصح. وبين ماركس الذي أوقف الديالكتيك على قدميه كما يقول بعدما كان هيغل قد أوقفه على رأسه. إنها الحرب بين الغرب والشرق. علماً أن الغزو الروسي إلى أوكرانيا ربطاً بالمواقف التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عشية الغزو فعلت فعلها في دفع الغرب كلها ولا سيما أوروبا إلى الاستفاقة. 

طوال السنوات الماضية كان بوتين يرتكز على جملة مقومات دفعته إلى اعتبار نفسه دائم الانتصارات. منذ دخوله إلى جورجيا، مروراً بحاجة ألمانيا وفرنسا إلى إرضائه لعدم التورط في حرب. بعدها أقدم على ضم القرم ولم يرف جفن أحد، في الموازاة، كانت تتنامى شعارات حول الانقسام الغربي وهو ما كان يشهد وقائع واضحة ومشهودة، من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى الأزمة التي يعيشها النظام الرأسمالي ولا سيما دول في الاتحاد الأوروبي من أزمات مالية واقتصادية، وصولاً إلى النزعات اليمينية ومواقف دونالد ترامب في الانسحاب من حلف شمال الأطلسي وعدم تمويله. كل هذه النقاط دفعت بوتين إلى الحمية والانقضاض. فكان انقضاضه عنصراً في استعادة الغرب للملمة نفسه، واستجماع موقفه والعودة إلى حرب الوجود والفكرة. والصراع على قيادة العالم والسيطرة على الاقتصادات ومنابع النفط والطاقة وممراتها وطرق التجارة. ثمة من يشبه وجود شي جين بينغ في موسكو، كوجود موسوليني في برلين عشية الحرب العالمية الثانية.

يبدو العالم العربي كحالة مستعصية، وهو ما تجلى في هزيمة الربيع العربي، علماً أن هذه الهزيمة هي تأجيل مؤلم لاستحقاق الديمقراطيات وأنظمة الحرية وحقوق الإنسان، والتحرر الاجتماعي

في خضم هذا الصراع، ينقسم العالم إلى قسمين، العالم الأوتوقراطي والثيوقراطي، مقابل النظام العالمي القائم على الديمقراطية والحرية والمجتمع المفتوح المبني على حرية الفرد. القسم الاول يصارع ضد أي مد ديمقراطي وهو ما يتضح بكلام الرئيس الروسي في مهاجمته للعالم الغربي، انطلاقاً من شعاره الحفاظ على الخصوصية الروسية فيما القيم الغربية لا تمثله. بينما القوى الديمقراطية، ومن لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي إلى اليوم، شمل قارات ودولاً كثيرة، ما عدا حالات مستعصية أو ممانعة. يبدو العالم العربي كحالة مستعصية، وهو ما تجلى في هزيمة الربيع العربي، علماً أن هذه الهزيمة هي تأجيل مؤلم لاستحقاق الديمقراطيات وأنظمة الحرية وحقوق الإنسان، والتحرر الاجتماعي.

النموذج الصيني هو إقرار بتفوق النظام الرأسمالي ورفض الأيديولوجية السياسية للرأسمالية. ولذلك تتحدث الصين عن خصوصية دينية قومية لتجديد شرعية الحزب الحاكم. أما روسيا كذلك الأمر، فقد أخذت بالرأسمالية الاقتصادية التي لا بديل عنها، ولكنها عملت على تأليف أيديولوجيا قومية شوفينية تحت مسمّى الخصوصية الأوراسية، المستمدة من التاريخ واللغة والثقافة مع الحفاظ على البعد الديني الأرثوذكسي. أما إيران فهي نظام قائم على أن لا بديل للرأسمالية ولكن في المقابل الحفاظ على الخصوصية الدينية التي تضمر وعياً قومياً حاداً والرغبة في عظمة إمبراطورية فارسية.

طموحات روسيا، بخلق مجال حيوي محيط فيها، يعيد لها الهيمنة على العالم الأرثوذكسي الصربي والبلقاني وفي شرق ووسط أوروبا، بالإضافة إلى دول البلطيق وصولاً إلى وسط آسيا، إلى جانب إحياء الحلم المتجدد دائماً في الوصول إلى المياه الدافئة. أما الحلم الصيني فيتجسد بإمبراطورية آسيوية إمبريالية تنافس الإمبريالية الأميركية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، على الأقل من خلال تقاسم النفوذ في المحيط الهادئ والهيمنة على كل شرق آسيا. وعليه ثمة قرارات مشتركة بين روسيا، الصين، كوريا الشمالية، والملحقات، تقضي بمواجهة الغرب لشعورهم بأن كل قيم الغرب أو النموذج الغربي، هو عبارة عن مدّ لا يتوقف ويجب إيقافه.

هذا من أبرز المؤشرات على الحرب العالمية الثالثة التي تدور رحاها بالتقسيط، وعنوانها الكبير "الحرب الروسية الأوكرانية". وهذا يعني أن انكسار أوكرانيا يعني خضوع أوروبا لإملاءات روسيا. وهنا يجدر الإشارة إلى أن الخطاب القومي الروسي يستعيد أدبيات الحرب العالمية الثانية من خلال اتهام أوكرانيا بالنازية، كما اتهم حلف شمال الأطلسي بالغزو الهتلري للاتحاد السوفييتي. بينما عندما يستشعر الغرب إمكانية الهزيمة الأوكرانية فهذا يعني أن دولاً عديدة ستدخل الميدان.

في اللحظة التي حط فيها شي جين بينغ في موسكو، كان رئيس وزراء اليابان يزور أوكرانيا، والتوقيت لا بد أن يكون متعمداً ومقصود، وبالتالي مشهد الصراع في الباسيفيك هو نفسه مشهد الصراع في أوكرانيا. وكانت لحظة بداية الغزو لأوكرانيا ارتجف أهل تايوان، تحسباً منهم لقيام الصين بشن هجوم عسكري، وفي اللحظة التي بدأ فيها تسليح الغرب لأوكرانيا بدأ فيها تدفق السلاح إلى تايوان. وهذا يجعل هذه المعركة من أوكرانيا إلى الباسيفيك معركة واحدة وقائمة. بناء عليه يمكن اصطلاح توصيف ما يجري بـ "الحرب العالمية الثالثة" والتي يرفقها دائماً الخطر النووي، فعدا ذلك وبالمعنى الأيديولوجي فهي شبيهة جداً بالحرب العالمية الثانية وما لم يستكمل سنة العام 1989 أي دمقرطة العالم، هناك محاولات لاستكماله في خضم هذه الحرب القائمة اليوم. أي حدث في المحيط الهادئ الذي يعج بالأحداث وبالغواصات النووية، على وقع التعاون الواضح بين اليابان، تايوان، نيوزيلاندا، أستراليا مع الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى متعاونة على "تطويق الصين".

السعودية تحرص على تصفير مشكلاتها وعدم الانحياز إلى أي جانب في هذه الحرب. لكنها أقدمت على الاتفاق مع إيران برعاية الصين بعد التخاذل والتآمر الأميركي

على وقع هذه التطورات، يأتي الاتفاق السعودي الإيراني في المنطقة برعاية صينية، وهو أمر لا بد له أن يستفز الأميركيين بالتحديد. لا سيما أن الأمور تسارعت منذ الإعلان عن هذا الاتفاق، إلى زيارة الرئيس الصيني إلى روسيا والتوقيع على اتفاقيات استراتيجية. فيما الاتفاق السعودي الإيراني كأكبر مصدرين للنفط والغاز مع الصين كأكبر مستورد للمنتجين وكـ "إمبراطورية" طامحة لخطة "الحزام والطريق" يضع قلب الشرق الأوسط في خضم هذه الحرب وتطوراتها. عملياً، فإن المعركة التي تخوضها روسيا وتؤدي إلى استنزافها عسكرياً ومالياً واقتصادياً، في مقابل الأزمات المتلاحقة التي تعيشها إيران سياسياً ومالياً واقتصادياً، تجعل السعودية والصين الطرفين الأقوى في هذه المعادلة. علماً أن السعودية تحرص على تصفير مشكلاتها وعدم الانحياز إلى أي جانب في هذه الحرب. لكنها أقدمت على الاتفاق مع إيران برعاية الصين بعد التخاذل والتآمر الأميركي. هذا سيلقي على السعودية مسؤولية واهتماماً بشكل أكبر. إذ ستكون الصين وروسيا في حاجة إلى استقطابها، نظراً لموقعها وقدرتها الاقتصادية الهائلة، في حين سيسعى الغرب إلى استعادتها وهذا لا بد أن يكون له أثمان. في حين يبقى الأخطر هو إشعال المنطقة كجزء من التخريب ونوع من إدخال الشرق الأوسط في خضم هذا الصراع.