طهران وواشنطن.. من صعود الخمينية إلى محكمة لاهاي

2020.08.21 | 00:56 دمشق

thumbs_b_c_4287163caf6aa1be4524810e6ef76fb0.jpg
+A
حجم الخط
-A

يكشف مقدار الخيبة والإحباط الذي بدا واضحاً في الأوساط السورية واللبنانية من جرّاء نتائج محكمة (لاهاي) التي اشتغلت بقضية اغتيال المرحوم رفيق الحريري، والتي انتهت أشواطها الماراتونية يوم الثامن عشر من الشهر الجاري، معلنةً الحكم النهائي في تلك القضية بإدانة المدعو ( حسين عياش) وتبرئة ثلاثة آخرين، دون إدانة واضحة وصريحة لحزب الله أو نظام الأسد.

لعل مبعث تلك الخيبة كان ناتجاً عن الحماسة الزائدة والمبالغة بالتعويل على نتائج عمل المحكمة التي اعتقد الكثيرون بأنها سوف تعيد الحق إلى نصابه، بل ربما بالغ البعض بالاعتقاد بأن نتائج تلك المحاكمة سوف تطال مصير حزب الله وشريكه الأسد في الصميم، وما عزّز من ذلك الاعتقاد هو الحرب الإعلامية الغربية على إيران وأذرعها في المنطقة، والتي تقودها الولايات المتحدة الأميركية، وما بين الحماسة والتفاؤل الزائد، والنتيجة الصادمة، لا يكمن سوء التقدير أو الخطأ في استشراف النتائج، أو تبدّل السياسات وفقاً للمصالح المباشرة فحسب، بل يكمن تاريخ طويل يكشف عن فحوى العلاقة بين طهران، باعتبارها الطرف الحاضن، والمُشغِّل في الوقت ذاته لكل الأذرع الضاغطة أمنياً في لبنان ( نظام الأسد وحزب الله ومشتقاتهما)، وبين واشنطن باعتبارها الدولة العظمى التي تقود تحالفاً دولياً لمواجهة الإرهاب، تلك العلاقة التي تتجسّد في مساحات بعيدة عن التهاوش الإعلامي، والوعيد والتهديد المتبادل.

لم تكن إدارة الرئيس ترامب بدعةً عن سابقاتها في كيفية التعاطي المزدوج مع إيران، إذ يمكن القول: في فترة مبكّرة من صعود الخمينية إلى السلطة 1979 كانت إدارة الرئيس (رونالد ريغن ) الذي وصل إلى السلطة في تشرين الثاني 1980 سبّاقة إلى إرساء دعائم تلك الازدواجية على المستوى الفعلي، حين منح إسرائيل الضوء الأخضر لتسليح إيران، مقابل إطلاق سراح الرهائن الأميركيين لدى إيران في عهد الرئيس جيمي كارتر، وقد بادله (الخميني) آنذاك مشاعر (حسْن النيّة) حين قدّم لريغان هديّة، قوامها واحدٌ وعشرون رهينة، أُطلق سراحهم كهدية للرئيس الجديد بعد يوم واحد من دخوله الأبيض، وقد أدّى تبادل مشاعر حسْن النوايا فيما بعد إلى إطلاق سراح بقية الرهائن الأميركيين، لتتبعها (أوسع عملية تسليح لإيران، تقوم بها إسرائيل) وقد تضمنت تلك العملية تزويد إيران (بدبابات وذخيرة وقطع غيار للطائرات وأجهزة إلكترونية)، وفقاً لما أورده السيد كمال ديب في كتابه ( تاريخ سورية المعاصر)، والذي يؤكد أيضاً، أن الهجوم الذي قامت به الطائرات الإسرائيلية على المفاعل النووي العراقي في حزيران 1981، إنما كان بأسلحة أميركية، وبمعلومات استخبارية أميركية.

ويذهب السيد نشوان أتاسي في كتابه (تطور المجتمع السوري)، والذي يؤكّد على ما ورد في كتاب كمال ديب السابق، إلى أن الدعم العسكري الأميركي الإسرائيلي للخمينية الصاعدة آنذاك، لم ينف – بأيّة حال – استمرار التصعيد الإعلامي ضد إيران، إذ في الوقت الذي كانت فيه الحملة الإعلامية الأميركية الإسرائيلية مستمرةً تجاه إيران، باعتبارها الدولة المموّلة للعنف، والداعمة للإرهاب وعمليات الخطف، وأنها هي التي تقف وراء الهجوم الذي استهدف قوات المارينز والرعايا الأميركيين في لبنان عام 1985 ، ولكن على الرغم من ذلك كله، فقد وافق الرئيس ريغان في العام ذاته، على أن تستمر إسرائيل بتزويد إيران بما لديها من سلاح، على أن تقوم الولايات المتحدة الأميركية بتعويضه لإسرائيل، وبالفعل شهد العام 1986 فضيحة كبرى، هي ما يدعى ( إيران غيت ) حول دور إدارة الرئيس رونالد ريغان بتزويد إيران بالسلاح، عبر الوسيط الإسرائيلي، بقيمة مالية بلغت مليارات الدولارات.

استمر الهجوم الإيراني المضاد على الولايات المتحدة، باعتبارها (الشيطان الأكبر)، إلّا أن الجدوى الحقيقية من وراء المهاوشات الإعلامية التي استمرّ سعيرها طيلة فترة الرئيسين جورج بوش الأب والابن، لم تسفر عن أي مواجهة فعلية بين الطرفين، بل على العكس من ذلك، إذ أبدت إيران تعاوناً واضحاً مع واشنطن إبان حربها على أفغانستان، ثم احتلالها للعراق عام 2003 ، وربما ردّت إليها الجميل واشنطن حين قدّمت لها العراق كاملاً بعد احتلاله، بل ربما يمكن الذهاب إلى أن ذلك التعاون المشترك قد أعطى إيران دفعاً إضافياً للمضي ببناء مشروعها النووي الذي قبلت إدارة بوش الابن أن يكون موضع تفاوض، بل يمكن التأكيد على أن حرب تموز عام 2006 ، والتي افتعلها حزب الله مع إسرائيل لم تكن إلّا بإيعاز من طهران لتوجيه الرأي العام أو إشغاله بغية حرف الأنظار وتخفيف الضغط الإعلامي الدولي عن سلوك إيران وتهديدها لأمن المنطقة.

لعل إدارة باراك أوباما ( 2009 – 2017 ) كانت أكثر انسجاماً من سابقاتها حين طرحت استراتيجية ( احتواء الخطر الإيراني) بدلاً من الهجوم عليه، ولعل هذه الاستراتيجية جعلت أوباما يغادر البيت الأبيض وهو يحمل مُنجَزين، يعتقد أنهما الأبرز – على صعيد السياسة الخارجية – هما الاتفاق النووي الذي أبرمه مع طهران في حزيران 2015 ، والتجريد المزعوم لمخزون السلاح الكيماوي لدى نظام الأسد، من خلال صفقة مع بوتين في أعقاب مجزرة الكيماوي التي نفذتها قوات الأسد في آب 2013 .

وعلى الرغم من تنصّل الرئيس ترامب من الاتفاق النووي مع طهران، وكذلك على الرغم من الجدّية التي يوحي بها خطاب الإدارة الأميركية في سعيها لمحاربة النفوذ الإيراني في المنطقة، إلّا أن ذلك كله – من الناحية الفعلية -  محكوم بسقف محدّد يتمثل في عبارة يحرص المسؤولون الأميركيون على تكرارها دوما: ( لا نهدف إلى تغيير النظام الإيراني بل نريد تغيير سلوكه)، وهذه العبارة ذاتها يردّدها الأمريكان خلال تعاطيهم مع نظام الأسد، علماً أن الأمريكان يدركون أكثر من سواهم أن سلوك كلٍّ من النظامين الإيراني والسوري ليس حالة عرضية أو سلوكاً مؤقتاً نتيجة ظرف راهن فحسب، بل هو منهج في الحكم يمارسه الطرفان منذ وصولهما إلى السلطة، ولعلّ تخلّيهما عن هذا السلوك مرهون بزوالهما فقط.

الموقف الغربي عموماً، والأميركي على وجه الخصوص، والذي يسعى إلى (تغيير سلوك نظامي طهران ودمشق) مع بقائهما في السلطة في الآن ذاته، يبدو أمراً شديد التعقيد، إن لم يكن مستحيلاً، ولعلّ هذه الاستحالة تتماهى مع استحالة الدلائل ( المادية) التي تفتقدها محكمة ( لاهاي) لتثبت تورّط حزب الله ونظام الأسد في عملية اغتيال الحريري، بل ربما كانت هذه الدلائل المطلوبة هي كالدلائل التي يحتاج إليها الفقهاء لإثبات واقعة الزنا.

ولئن لم يكن من أهداف وموجبات محكمة لاهاي إدانة كيانات أو دول، بل إدانة أشخاص بعينهم، وهذه مسألة قانونية لا يمكن التنكّر لها، فإنه من جهة أخرى، لا يمكن لعاقل أن يصدّق بأن اغتيال رفيق الحريري كان هدفاً شخصياً لأفراد، بل هو – بكل تأكيد – هدف لدول وكيانات.