صناعة الهويّات القاتلة والمقتولة: أوكرانيا

2022.10.10 | 06:23 دمشق

روسيا وأوكرانيا
+A
حجم الخط
-A

للحرب تكاليف باهظة، ولبذل أقصى الجهود فيها بأقلّ التكاليف منطق اقتصادي، خاصّة إذا كانت بين شعبٍ كالشعب الأوكراني مثلاً، ودولة بحجم روسيا الاتحاديّة التي اتّهم رئيسها، خلال خطابه الأخير أمام الكرملين، حكومة أوكرانيا بممارسة العنصريّة ضد مواطنين أوكران ينحدرون من الإثنيّة الروسيّة. فلم يجد بوتين بدّا من "تحرير" شرق أوكرانيا وإعادته إلى الوطن الأم روسيا!

بوتين عثر على منطقه أيضاً!

نحتاج إلى البدء من نقطة ما غير الجغرافيا الأوكرانيّة المعرّضة للتقسيم بذريعة "الحرب الأهليّة"، وغير التاريخ الذي يمكن أنْ يقرأه بوتين أو بايدن بطريقة تناسبه هو فقط.. ربّما يمكننا البدء من عتبة إنسانيّة محايدة، تفترض مواطناً أوكرانيّاً بسيطاً، غير مسيّس وغير منتم إلّا لرغبته في أن يكون بخير.

لسنا نحتاج إلى دليل إذا افتراضنا أنّ كلّ إنسان يريد الحريّة والعيش بسلام، والحصول على مستوى دخل مناسب يؤمّن له حياة كريمة. ولا نحتاج إلى أدلّة لنظنّ أنّ المواطن الأوكراني إنْ كان قد دعم "اتفاق الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي" سنة 2014، فإنّ ذلك عائد إلى رغبته الطبيعيّة في أن يكون بخير، فيما يصعب الربط بين دوافع تلك الرغبة، وبين الأهداف السياسيّة المعقّدة سواء لزعماء النّاتو أو لبوتين!.

مثل كل شعوب الربيع.. شهدت أوكرانيا في 2014 تظاهرات أطاحت بحكومة "يانوكوفيتش" ردّاً على مماطلة الرئيس في التوقيع على "عقد الشراكة الأوروبية الأوكرانيّة". ثمّ عيّن البرلمان حكومة جديدة برئاسة "ياتسينيوك"، وأجرت هذه الحكومة إجراءات عديدة، بينها: "إلغاء قانون متعلق باللغات المحلّيّة للأقاليم..". ربّما يمكن اعتبار ذلك "الإلغاء" على وجه الخصوص حدثاً نافراً على "الرغبة الطبيعيّة" لمواطننا الأوكراني البسيط. إذ ما فائدة إلغاء تعدد اللغات في سيرورة بحث الأوكراني عن الحريّة!

على أيّة حال فإنّ تلك الإجراءات أعادت إحياء مظاهرات أخرى بدت، من حيث السياق، ردّا على المظاهرات الأولى، ووقع العديد من الضحايا..

ذكر بوتين في خطابه الأخير أمام الكرملين الفئة الثانية من المتظاهرين قائلاً: (سنتذكّر أسماء أبطال "الربيع الروسي" الذين قتلوا عام 2014 من أجل حماية حقوقهم في الحياة والتكلّم باللغة الروسيّة)!

بين حرب بوتين بذريعة حماية الأمّة والقيم القوميّة و"التعدّدية"، وبين حرب بايدن بذريعة الدفاع عن القيم العالميّة و"الانفتاح" دائماً ثمّة ما يبدو منطقيّاً  لكن لا بأس من طرح بعض الأسئلة حوله مثل: هل على الأوكراني، وإن كان من اثنية روسيّة، أن يدافع عن مصالح روسيا في أوكرانيا حتّى يسميّه بوتين "ثائراً" من أجل التعدّديّة؟!

بين حرب بوتين بذريعة حماية الأمّة والقيم القوميّة و"التعدّدية"، وبين حرب بايدن بذريعة الدفاع عن القيم العالميّة و"الانفتاح"، بحسب خطابه الأخير أيضاً أمام الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة، دائماً ثمّة ما يبدو منطقيّاً  لكن لا بأس من طرح بعض الأسئلة حوله مثل: هل على الأوكراني، وإن كان من اثنية روسيّة، أن يدافع عن مصالح روسيا في أوكرانيا حتّى يسميّه بوتين "ثائرا" من أجل التعدّديّة؟!

في المقابل: مَن المستفيد من قرار إلغاء الاعتراف باللغات الأخرى، ومن منح بوتين ذريعة للتدخّل العسكري عام 2014 في دونيتسك ولوغانسك. وإجراء استفتاء في جزيرة القرم!

لعل السيرورة الزمنيّة لذلك المواطن البسيط، أسوة بأقرانه من الشعوب، تفترض حدوث تحوّلات على هويّته مع توالي الحقب التّاريخيّة:

  • الامبراطوريّة: حيث كان الأوكراني، بنسبة كبيرة، مسيحيّاً أرثوذوكسيّاً.
  • الحداثيّة الوطنيّة: في شكلها الليبرالي، أو الاشتراكي القوميّ، والأوكراني خضع للتجربة الاشتراكيّة.
  • حقبة ما بعد الحداثة: وهذه يؤرّخ لها المفكّرون الغربيون مرّة بانتهاء الحرب العالميّة الثانيّة. ومرّة بانتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي. إلّا أنها الحقبة التي شهدت  محاولة الاستراتيجيين العولميّين رسم أو استقراء هويّة عالميّة واحدة.

ذكر بايدن "العولمي" خلال خطابه الأخير " فضل الانفتاح وحريّة التنافس" على ازدهار الدّول. وحثّ العالم على الإيمان بمبدأ  "المساواة" وذكر الأقلّيات، والأفراد، والمرأة، والمثليين، والأطفال..

بوتين "الإقليمي" لم يتحدّث خلال خطابه الأخير نيابة عن العالم، لكنّه شكّكَ في أنّ الشعارات الأميركيّة تنطلق بالفعل من بعد قيمي، في حين عزف بوتين على وتر المساواة بين الشعوب.

ثمة أسئلة بسيطة من جديد: هل يمكن لبايدن أن يؤمن بالمساواة بالفعل بين مِثلي فلسطيني من خلفيّة إسلامية أو روسي من خلفيّة أرثوذوكسيّة، أو حتّى مكسيكي من خلفيّة كاثوليكيّة، وبين مثلي إسرائيلي أو أميركي من خلفيّة بروتستانتيّة أو كاثوليكيّة!؟

وهل يؤمن بوتين بالتساوي بين حق الشعب الروسي وحق الشعب الأوكراني!؟

ثمة أسئلة كثيرة يمكن أن تُحرج منطقاً ذرائعيّاً يناسبه رفع شعار "المساواة" بين الأفراد في الدّول ويدعم إلغاء التعدديّة في واحديّة الشعب الأوكراني، أو يتحدث عن تعدّدية الشعوب ويُلغي المساواة بين الشعوب!

في حين يخضع المواطن الأوكراني البسيط لإرباك هويّاتي، بين أن يكون مواطناً أوكرانيّاً من اثنيّة روسيّة ويتبع الكنيسة الأرثوذوكسيّة الروسيّة، أو قوميّاً أوكرانياً يتبع الكنيسة الروسيّة، أو أوكرانيّاً يتبع كنيسة كيّيف بالذّات.. وهي  أرثوذوكسيّة!

حسناً، تبدو حرباً أهليّة، لا ثورة، ولا بد من تقسيم أوكرانيا، تبعاً لحريّة إرادة الأوكرانيين، حتى تعيش كل فئة بسلام.. لكن إلى أين يمكن أن يذهبَ الأوكراني من الإثنيّة الروسيّة إذا اختار أن يتبع كنيسة كيّيف، أو أن يؤيّد  التحالف الأوكراني الأوروبي!؟

ليس معروفاً مصدر ثقة الاستراتيجي الأميركي "هنتجتون" في كتابه "صراع الحضارات" بأن الشعوب الشرقيّة، بعد انهيار الشيوعيّة، ستبحث عن هويّات جديدة عبر النكوص إلى الهوية "القوميّة/الدّينيّة" حتماً. إلّا أنّ تصوّره ينطوي، بلا ريب، على عدم اعتراف ضمني بالتجربة الحداثيّة لتلك الشعوب، ويُلغي نحو قرن من عمرها.

تبع "هنتجتون" في موضوعة "الهويّة الحضاريّة" كثير من المفكّرين المؤثّرين عالميّا  وعلى رأسهم "فرانسيس فوكوياما"،  فقدّم  تصوّراً عن حدود حضاريّة بين عالمين: عالم ما بعد تاريخي، ديمقراطي تجاوز التجربة القوميّة. وهو الذي افترضنا أنّ رغبة المواطن الأوكراني بالوصول أو الانضمام إليه لا تحتاج إلى تبرير، وعالم تاريخي لن يصل إلى الديمقراطيّة قبل خوض التجربة القوميّة!.

ثمّة توافق آخر بين "هنتجتون وفوكوياما" بأنّ قيم الديمقراطيّة الليبراليّة مرتبطة عضويّاً بسيرورة الثقافة الغربيّة "الكاثوليكيّة البروتستانتيّة"!

ثمّة توافق آخر بين "هنتجتون وفوكوياما" بأنّ قيم الديمقراطيّة الليبراليّة مرتبطة عضويّاً بسيرورة الثقافة الغربيّة "الكاثوليكيّة البروتستانتيّة"! إذن يبدو، بحسب المفكّرين، أنّ ثمّة حائلين آخرين غير بوتين يحولان بين الأوكران وبين الاعتراف بهم كشعب يستحق الديمقراطية، يتمثّل الحائلان بـ: الهويّة الثقافيّة الأرثوذوكسيّة (غير الكاثوليكية البروتستانتيّة). وأزمة الحقبة القوميّة!.

لكن هل كان الشعب الأوكراني، الراغب بحياة أفضل، ذاهباً باتجاه التشدّد القومي قبل تعرّضه لاستفزازات متعلّقة باللغات وبروز من يسمّيهم بوتين "النّازيّين الجدد"، وحرب بوتين القوميّة على الأوكران، أمّ أنّ المنطق الاقتصادي لحرب أقل كلفة وأكثر فعّاليّة، بين بوتين والنّاتو، يتطلّب كل ذلك!

يقول هنتجتون: (حين يكون صراع، فإنّ ثأر الله يبقى الورقة الرابحة)، وتوقّع في كتابه المنشور قبل ثلاثين سنة، تخلي أوكرانيا عن ولاياتها الشرقيّة لصالح روسيا، وكتب تحت عنوان: سياسة الهويّة: (السياسة الكونية يعاد تشكيلها الآن، الحدود السياسية يعاد رسمها لكي تتوافق مع الحدود الثقافية: العرقية والدينية والحضارية)!.

قال: سيتحوّل سؤال "إلى أي جانب أنت؟" ليحل محلّه سؤال: "من أنت؟". وهذا سينتج حتما هويّة أحاديّة وصلبة بطبيعة الحال!.

حين يستحوذ التشدّد القومي أو الديني على هويّة المتحاربين فإنّ السؤال عمّن سيفوز أو سيخسر غير مفيد. إذ الجميع خسر الحريّة "ما بعد الحداثيّة" منذ بدء القتال بشروط حريّة أخرى!

في النهاية، يصعب فهم التحوّلات التي حدثت للهويّة في الدول التي شهدت ثورات حريّة، بوصفها تحوّلات مرتبطة بالثقافة المحلّية فحسب، دون ملاحظة تأثير دور ما مشترك بين الأنظمة المستبدّة محليّاً وإقليميّاً، وبين القوى العالميّة التي تمتلك تصوّرات حتميّة عن العالم وتريد ترسيخها.