"صفقة القرن".. وجدران الفصل في "دول الهلال"

2020.01.29 | 23:02 دمشق

3-74.jpg
+A
حجم الخط
-A

تنطبع ذاكرة الشباب العربي، بثلاثة جدران. سور الصين العظيم، جدار برلين، وجدار الفصل العنصري. في الأول ما يرمز إلى العظمة بالنسبة إليهم، وانهيار الثاني مثّل لهم التطور نحو التلاحم بين الشعوب، بينما الثالث، فقد عمّق مأزق العرب المتجذر في صعوبة مواجهته. لم يعد جدار الفصل العنصري حكراً على الكيان الإسرائيلي الغاصب. وهو لم يُبن إلاّ بعد عملية تهجير منظمة ومديدة للفلسطينيين. لقد عاشت الأجيال العربية على مناصرة القضية الفلسطينية، ورفض تهجير الفلسطينيين من أراضيهم. كما دفعت المنطقة العربية برمتها ثمن النكبة الفلسطينية، والنكسات المتتالية بعدها.

تقبع الشعوب العربية في مقاطعات مصغّرة، تفرّق بين أبناء البلد الواحد والثقافة الواحدة. تحولت الدول العربية من كيانات تحمي التنوع، إلى دول الجدران والأسلاك الشائكة. تسوير المقرات الرسمية للسلطات والحكام، ليس إجراءً تقنياً تتخذه هذه السلطات لحماية نفسها. إنما كسرٌ للتلاحم بين السلطة والمواطن، وتكريساً لإذابة كل ما يجمعهما، بالمعنى الأكثر تبسيطا، إذ إنّ ما يعني السلطة لا يعني الشعوب، وهذه السلطات التي يفترض أن تستمد وجودها من إرادة الشعوب، هي أكثر ما يفترق عنهم وتعدم أي فرصة للتعبير عن متطلباتهم.

تحول لبنان في الأيام الأخيرة إلى جمهورية مقطعة الأوصال. تحتل ساحات بيروت، أسوار وجدران إسمنتية، تفوق خطورتها جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية. اختبر لبنان لعبة الجدران الفاصلة عنصرياً، مع الفلسطينيين في مخيم عين الحلوة، كما اختبر ذلك في الجدار الذي بناه العدو الإسرائيلي على حدوده الجنوبية. وقبل ذلك جدار الحرب الأهلية اللبنانية. اليوم تكرس السلطة اللبنانية انفصالها العضوي

يولّد الانفصال الاجتماعي في هذه الكيانات، ابتداع مقاطعات سياسية مصغّرة، كان أول من ابتكرها حلفاء النظامين الإيراني والسوري، في لبنان كما في العراق

والوطني عن الناس. وما هو حاصل في لبنان، لا يختلف عن فصل ديمغرافي شهدته سوريا، يعود لبنان ويتأثر به على قاعدة سياسية أو مذهبية، فمن يوالي النظام، يمارس فعل عنصريته وتفوقه من خلفية مذهبية أو سياسية، فينفصل عمن يعارض النظام في المعسكر الآخر.

يولّد الانفصال الاجتماعي في هذه الكيانات، ابتداع مقاطعات سياسية مصغّرة، كان أول من ابتكرها حلفاء النظامين الإيراني والسوري، في لبنان كما في العراق. بدأ أولها في اللعب على الوتر السني الشيعي، في لبنان والعراق، والسني العلوي في سوريا. شكل اللعب مادة استلهام لجماعات أخرى، جسدها ميشال عون وجبران باسيل مسيحياً، عبر منع المسلمين من شراء المنازل واستئجارها في مناطق مسيحية، وشنّ حروب عشوائية على اللاجئين السوريين والفلسطينيين، في حملة عجز عن قيادتها "اليمين الإسرائيلي". تحوّل لبنان منذ سنوات إلى اليوم، إلى مسرح للصراعات بين الأقليات ذات النزعات الانفصالية، وصياغة منطق الانفصال هنا، لا يختلف عن منطق التهجير الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، تهجير بهدف السيطرة النهائية في مرحلة لاحقة. اللعبة مفضوحة من العراق إلى سوريا فلبنان، تهجير الكتل السكانية الأكبر، تنمية النزعات الانفصالية أو التقسيمية، والتي تبدأ من شعار "التوزيع الطوائفي" لمواقع السلطة، تمهيداً لانتصار أصحاب هذه النظرية، فيصبح كل شيء واقع بيدهم، ربما لبنان هو المثال الأبرز على الخلاصة التي يمكن الوصول إليها.

فلغة الانقسام والانفصال والانعزال فيه التي تنامت منذ العام 2005، كانت مجرد بعبع، يتم من خلاله تخويف "الشركاء" الآخرين في الوطن، للوصول إلى تطويعهم وتهوين قوتهم، فتصبح السيطرة عليهم أكثر، وهذا ما نجح حزب الله في تكريسه على مدى السنوات الفائتة، وحتى بعد اندلاع الثورة اللبنانية في 17 تشرين 2019، نجح الحزب في اختراقها وتحويل مسارها، ووصل إلى تشكيل الحكومة التي يريدها، بكل ما تعنيه من فصل بين السياسة والناس، فكرّست الحكومة هذا الفصل ببناء الجدران وخنق الساحات. في سوريا تخطّى المشهد تشييد جدران العزل بين السوريين، كانت اللعبة الدموية أقوى من كل الألعاب الأخرى، فتجلّى الاستلهام الحقيقي للتجربة الوحشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. هُجّر السوريون، وتكرس الفصل فيما بينهم.

أما العراق الذي استنسخ فيه ما بعد اجتياح العام 2003، النموذج اللبناني، من خلال تقسيم السلطات طوائفياً، يتكرس الانقسام فيه مجدداً، بين الأكراد أصحاب الحكم الذاتي، والسنة الذين يجدون أنفسهم معزولين ومستضعفين، أصبحوا

انقسامات الدول والمجتمعات على حالها، والتي أدت إلى تهميش العناوين الوطنية، إلى عناوين مناطقية ومذهبية، طائفية، أو عرقية، تأتي كنتيجة لغياب أي مشروع عربي حقيقي جامع لمعنى المواطنة

هم اليوم يطالبون الأميركيين بالبقاء، والشيعة الذين يرفعون شعار إخراج الأميركيين لسبب واحد فقط وهو السيطرة على العراق بكليته، بدعم من إيران، بعد الانقضاض على التظاهرات الشيعية الرافضة للهيمنة الإيرانية.

انقسامات الدول والمجتمعات على حالها، والتي أدت إلى تهميش العناوين الوطنية، إلى عناوين مناطقية ومذهبية، طائفية، أو عرقية، تأتي كنتيجة لغياب أي مشروع عربي حقيقي جامع لمعنى المواطنة يرعى العرب في امتدادهم على مختلف الدول. هنا يتجلّى مفهوم الغياب العربي عن التأثير، بالملف اللبناني، السوري، والعراقي، ومن قبلهم الفلسطيني. تحولت هذه الدول العربية إلى كيانات فاشلة معروضة على طاولات المساومة الإقليمية والدولية. عندما تخلى العرب عن القضية الفلسطينية، خلقت لهم، مشاكل متنقلة بين دولة وأخرى، خسروها جميعها، بدءاً من النكبة السورية التي تفوق خطورتها النكبة الفلسطينية. ولو لم تحصل النكبة السورية على مرأى العالم، لما كانت الدول اليوم تتقاتل على الذهاب إلى إبرام صفقة القرن والإعلان عنها، وهي التجّلي العام لسياسة التفرقة والفصل العنصري داخل كل الكيانات العربية. تشتيت العراق بين السنة والشيعة والأكراد، مقابل تهجير سوريا، وفرزها على أساس مناطقي ومذهبي تتقاسمه الدول المؤثرة بغياب العرب، وإنهاء الصيغة اللبنانية التاريخية، جميعها تقدّم المسوغات الموضعية للإعلان عن صفقة القرن، وإنهاء القضية الفلسطينية، والتي بإنهائها، سيتحول القرن الجديد إلى النكبة العربية، بعد أن كان القرن العشرين هو قرن النكبة الفلسطينية.