icon
التغطية الحية

صدّرت الزيت والقديسين وفن العمارة.. قرى سورية غيّرت وجه أوروبا

2022.12.06 | 06:06 دمشق

كنيسة قلب لوزة شمالي سوريا (Contributor)
كنيسة قلب لوزة شمالي سوريا (Contributor)
إسطنبول - ريان أبو ليلى
+A
حجم الخط
-A

كان الأطفال في قرية قلب لوزة شمالي سوريا، يتسللون عام 2010، تبعاً لما جرت عليه العادة بينهم، إلى باحة الكنيسة المهجورة التي تحمل اسم قريتهم، ليخوضوا مباراياتهم هناك في أجواء مونديالية شبيهة بأيامنا هذه، حاملين معهم أحلاماً سحرية عن عالمٍ خيالي يفتح لهم آفاقه بركلة كرة، ولو طاوع الزمن مخيلتهم لرأوا كاتدرائية نوتردام في باريس ترتفع مهيبة فوق رؤوسهم بإلهامٍ من كنيسة قريتهم المنسية، لكنهم كانوا في الحقيقة على بعد عامٍ واحدٍ من حدثٍ سيلقي بهم إلى  المصير ذاته الذي واجهته قرى أسلافهم، الهجران والموت والنسيان.

في عالمٍ يزداد انقساماً تدخل سوريا العقد الثاني من حربٍ عمّقت الصدع داخل مجتمعاتها، وفي مشهد الخراب والشتات هذا برز مجدداً ما يسمى "المدن الميتة" أو "المدن المنسيّة"، وهي سلسلة من القرى المهجورة يقع معظمها في محافظتي إدلب وحلب شمالي سوريا، يرى بعض الباحثين والمؤرخين أنها قد تسهم بارتباط السوريين بقيم مشتركة مجدداً، بإلهامٍ من التجربة التي خاضها أسلافهم في هذه المنطقة، عبر العصور الرومانية والبيزنطية والأموية.

فكيف تمكن السوريون من الهيمنة على طرق التجارة المتوسطية لثلاثة قرون من تلك المنطقة المنسيّة؟ وما علاقة النظام الديني والاقتصادي الذي ابتكروه بالازدهار الثقافي والفكري لشمالي سوريا؟ وكيف امتد نفوذهم إلى مدن أوروبية كبرى مثل باريس؟ ولماذا يستعيد سيرتها مؤرخون من الشرق والغرب في أيامنا هذه؟

أطفال يلعبون داخل كنيسة قلب لوزة (Contributor)

الصلاة والعمل

باعتناق الإمبراطورية الرومانية للديانة المسيحية في القرن الرابع، تراجعت قيمة الاستشهاد كدليل على الإيمان لصالح نمط جديد من التدين ظهر شمالي سوريا، وهو الرهبنة، عُرف اتباعه باسم "شهداء أيام السلم"، سُرعان ما ذاع صيتهم في أصقاع الإمبراطورية، واجتذبت روحانيتهم العميقة وفوداً من الحجّاج والتلاميذ والتجّار من العالم الغربي.

ومن هذه البقعة من الأرض ألهب السوريون مخيلة المؤمنين حول العالم، بقصصٍ عن رهبانٍ عاشوا جلّ حياتهم في مكانٍ واحد لا يبرحونه، أشهرهم سمعان العمودي، الذي أمضى نحو 37 عاماً من عمره جالساً فوق عمود، يعظ الناس التي توافدت لرؤية "أعجوبة العالم".

وبموافقة بعض النسّاك في منتصف القرن الرابع على إقامة بعض التلاميذ قربهم لتعلم أسلوب الحياة المتقشف، ظهرت الأديرة التي تألفت في الغالب من كنيسة صغيرة وقاعة اجتماعات ومبنى من طابقين ومقبرة، ولأن الكنيسة هي رمز الحضور الإلهي في هذا الدير، فقد حرص السوريون على بنائها بأفضل المواد والطرق الممكنة، وتجلّت فيها فرادة العمارة السوريّة.

وسرعان ما برزت معالم نظام اقتصادي ابتكره الرهبان شمالي سوريا، ضمن لقراهم ازدهاراً بوصفها منارة للحضارة المسيحية، وصل إشعاعه حتى عاصمة الإمبراطورية روما، في الوقت الذي كانت تشهد فيه كل من إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وشمال أفريقيا، تدهوراً اقتصادياً بسبب الاضطرابات السياسية في الإمبراطورية، بحسب الخبيرة في ثقافة الشرق الأوسط والمتخصصة في سوريا، ديانا دارك.

كرّس الرهبان السوريون يومهم للصلاة والعمل، وأسهم نظامهم هذا ليس بتحقيق اكتفاء ذاتي للمنطقة فقط، بل وبنشوء مؤسسات ذات اهتمامات اقتصادية وثقافية تعنى بالرفاه، ونجحت بعض الأديرة بتطوير نظام شبه صناعي، في حين وفّرت أديرة أخرى فرص عملٍ وتدريبٍ زراعي وإقامة، أدت في محصلتها إلى نمو اقتصادي، أسهم بتوسع القرى حول الأديرة.

لاحقاً، بعد نشوء الرهبنة البندكتية في إيطاليا، التي قدمت نموذجاً لتنظيم الأديرة في جميع أنحاء أوروبا، تبنت نظام "الصلاة والعمل" الذي ابتكره السوريون.

العمود الذي كان يعظ منه القديس سمعان قرب حلب (Getty)

الآثار المقدّسة.. هكذا تحوّل أي موقع لمركز حج

مع ازدهار النمو الاقتصادي بات الالتحاق بالأديرة السورية أكثر صعوبةً، إذ اقتصر القبول على أولئك الذين يجيدون القراءة، وامتد نشاط رهبانها من التركيز على الصلاة والعمل، إلى إدارة منشآت ثقافية وعلمية، وظهرت مدارس شمالي سوريا تدرّس اللاهوت إلى جانب العلوم، بما في ذلك الفلسفة والطب والتاريخ والرياضيات والموسيقا وعلم الفلك، وذكرت المصادر السريانية عشرات المكتبات الثقافية في المنطقة (إحدى المصادر أشارت إلى 23 مكتبة للثقافة الكلاسيكية)، وفي تل عدا قرب السلمية على سبيل المثال، تحول الدير إلى مركز للباحثين والعلماء والأطباء والفلاسفة، وبحلول القرن السادس، بات الرهبان يمثلون في هذا المجتمع ما تتراوح نسبته بين 4 إلى 6 في المئة من السكان، بحسب دراسة بعنوان "الفن المسيحي لسوريا البيزنطية"، للباحث الإسباني إجناثيو بينا.

وكان توسع الأديرة وازدهارها قد اجتذب السوريين كذلك من أرجاء البلاد منذ منتصف القرن الخامس، تحذوهم الرغبة في إصابة شيءٍ من فرص العمل التي أتاحتها المنطقة، لا سيما في توفير الطعام والشراب ومؤن الرحلة والهدايا التذكارية للزوّار والحجّاج، لكنهم كانوا مسحورين أيضاً بحكايا القديسين وقصص المعجزات، ودفعتهم الرغبة الملحّة في النجاة من عالمٍ يموت فيه نحو نصف السكان قبل أن يبلغوا سن الخامسة، إلى البقاء على مقربة من المواقع المقدسة لأخذ "البركة"، التي ساد اعتقاد حينها أن لها القدرة على دفع المرض والموت وحفظ الصحّة، واعتباراً من النصف الثاني من القرن الخامس، انتشرت فكرة تقديس الآثار في أرجاء سوريا، وتنافست المدن الكبرى على حيازتها، لقدرتها المضمونة على اجتذاب الزوّر والحجّاج، الذين يجلبون معهم فرص العمل والازدهار التجاري.

بشكل عام، سيطر مجتمع الرهبنة السوري شمالي البلاد على طرق التجارة المتوسطية بشكل كبير من القرن الرابع إلى القرن السادس، وصدّروا إلى الغرب زيت الزيتون والنبيذ والتوابل، إلى جانب قديسيهم وعباداتهم وطقوسهم الدينية، وبانتباه الأوروبيين لأهمية الآثار المقدسة سعت كنيستهم للاستثمار فيها والاستحواذ عليها، ونرى على سبيل المثال كيف حوّل "رداء ولادة العذارء" بلدة شارتر في فرنسا إلى مركز حجّ، بمجرد حصول أسقف البلدة عليه، بحسب دارك.

قرية سرجيلا في إدلب إحدى أبرز معالم "المدن المنسيّة" ( Bernard Gagnon - GNU FDL)

روحانية العمارة السورية في أوروبا

ترجم السوريون تفوقهم الاقتصادي والفكري على شكل نفوذ فنّي وثقافي وديني امتد إلى الأراضي الأوروبية، مع بعض الرهبان السوريين الذين هاجروا غرباً، حاملين معهم معرفة في شتى أنواع الفنون والعلوم، ويمكن سماع أصداء التراتيل التي كتبها القديس إفريم السوري بلغته السريانية، تتردد باللغة الإنكليزية في بعض الكنائس الأوروبية إلى يومنا هذا.

كما نقل السوريون إلى أوروبا رمز "الحمل" الذي استخدموه عوضاً عن المسيح لتجسيد قيمة التضحية، وأدخلوا إلى القارة احتفالات دينية جديدة أبرزها أعياد مريم العذراء وعيد جميع القديسين، وانتشرت صورة القديس سمعان العمودي في أرجاء البلاد الأوروبية، خاصة فوق أبواب المتاجر في العاصمة روما، وظهرت قريتان في فرنسا تحملان اسمه "سان سيميون" (Saint-Siméon)، وجسدته أعمال فنية في عدد من الكنائس.

لكن الأثر الأبرز والأكثر حسماً في الثقافة الأوروبية كان فن العمارة، إذ نقل الرهبان السوريون معهم مخطوطات حول عمارة الكنائس وأساليب الديكور والإضاءة، شكلت لاحقاً مرجعاً فكرياً للعمارة المسيحية الأوروبية، ولعبت دوراً حاسماً في عمارة النهضة والهوية الأوروبية كما يرى بعض المؤرخين، وتوثق السجلات التاريخية أسماء العديد من الفنانين والحرفيين السوريين المشاركين في مشاريع عمرانية في البندقية، المدينة التي تُعتبر تحفة العمارة والفن في أوروبا والعالم إلى يومنا هذا.

وظهرت التأثيرات المعمارية السورية بشكل واضح في أشهر الصروح المعمارية الأوروبية مثل كاتدرائية نوتردام في باريس، وهو موقع الحج الأكثر شهرة في نهايات القرن الخامس في أوروبا.

ويشير بعض المؤرخين المعاصرين، مثل غريغوري أوف تورز، إلى نفوذ الجالية السورية القوي في العديد من المدن الأوروبية التي كان لها موانئ تجارية مثل مدينة بوردو في فرنسا، وحتى في باريس كان للسوريين نفوذ مؤثر إذ تمكنوا عام 591 من انتخاب رجل دين سوري رئيساً لأساقفة المدينة، والذي وزع المناصب الكنسية الأكثر نفعاً على أبناء وطنه من السوريين.

كنيسة القديس سمعان العمودي (Bernard Gagnon)

آخر ما تبقى من نشوء فكرة سوريا

انتهت قصّة النفوذ والإلهام هذه التي استمرت على مدار القرن الرابع والخامس وحتى القرن السادس الميلادي، بسبب جملة من العوامل السياسية والاقتصادية والطبيعية، أبرزها الحروب التي دمرت دعائم اقتصاد المنطقة مثل شجر الزيتون، وتحوّل الطرق التجارية مع توسع الإسلام لصالح الجزيرة العربية وبلاد الرافدين، وتأثر المنطقة بالزلازل مع انتشار الأوبئة والجفاف، وبحلول القرن العاشر كان سكّان هذه القرى الموزعين على أكثر من 800 موقع قد هجروا قراهم.

حافظت هذه القرى على هويتها الأصلية، لأنها لم تؤهل بعد هجرانها، وبذلك تحوّلت إلى وثيقة أثرية بالغة الأهمية، تخبرنا بالكثير عن النظام الاجتماعي والسياسي الذي ابتكره أبناء المنطقة، لأن هذه العمارة نابعة عن إحساس السوريين، وتُعبر عن أفكارهم ورؤاهم بدوافع شعبية وبمعزل عن أي سلطة خارجية، كما يرى المؤرخ المعماري السوري ومؤلف كتاب "عمارة المدن الميتة - نحو قراءة جديدة للتاريخ السوري"، ناصر الرباط.

على الصعيد الاجتماعي مثلاً، نلاحظ أن بيوت القرية تنزع إلى تأكيد المساواة بين الفقراء والأغنياء، ربما تتسع مساحة بيوت الأغنياء ويزداد عدد الطوابق، لكن العناصر المعمارية تبقى واحدة في بيوت جميع الناس، وقد أشار الرباط في مقابلة مع تلفزيون سوريا، إلى أن ذلك يذكرنا بالبيوت العربية التي ظهرت لاحقاً في دمشق وحلب، حيث يكون الطابع العام للمنازل من الخارج مشتركاً بين الفقراء والأغنياء.

سياسياً أيضاً، يظهر في كل قرية بيت يدعى الـ"أندرون" (الاسم جاء من اليونانية، ويمكن ترجمته إلى بيت القرية، وهو بالمعنى السياسية مشابه لبيت الأمة أو البرلمان)، في هذا البيت يجتمع البالغون من الرجال بشكل دوري للنقاش في قضايا تشغل المجتمع.

صمدت هذه القرى أمام معارك الفرس والبيزنطيين والحمدانيين والصليبيين وغيرهم، وتجاوزت قرون طويلة من الإهمال من دون الحاجة إلى دعامات أو ترميم، ويعتبرها الرباط بعض مما تبقى لنا من نشوء فكرة سوريا تاريخياً، ربما حفظها لنا الزمن بأمنية سحرية لأحد الحجّاج إلى دير سمعان قرب حلب، والذين اعتادوا على اقتطاع أجزاء من العمود الحجري للقديس على سبيل البركة، وكان يمكننا أن نطمئن لهذه الأمنية، ونغرق في الأحلام شأن الأطفال في باحة كنيسة قلب لوزة، لولا غارة روسيّة نسفت العمود عن بكرة أبيه عام 2016، تاركةً ما تبقى من سوريا الحالية، للموت والهجران والنسيان.