شجرة الزيتون الحزينة

2019.11.22 | 19:35 دمشق

muhammed-bello-efreen6-2016.jpg
+A
حجم الخط
-A

تاريخ أشجار الزيتون في عفرين وما حولها قديم جداً، وأول ما كان يلفت النظر منذ سنتين وأكثر، حين دخول المدينة ذاك التناسق المتناهي الدقة لمواقع الأشجار المزروعة على الجبال، فكأن مهندساً بارعاً أعدّ لها مواقعها، فلا اختلال ولا فراغ بل إبداع واهتمام وإتقان. وكنا إذا ما مررنا بها تأملنا روعة المشهد فيأسرنا، لندرك أن بلد المليون شجرة زيتون هو كنزٌ ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.

على الطريق الذي يصل ما بين عفرين والباب، عشرات الشاحنات الصغيرة تمر على عجل، محملة بالأشجار المقطوعة بهدف التدفئة!

تختفي معالم السيارة من الخلف وسط أغصان الزيتون المقطوعة والكثيفة، بلونها الزيتي اللامع، فتبدو كشجرة ضخمة تتحرك فوق الأسفلت، وعند الاقتراب منها قليلاً يغدو بالإمكان تخمين عمر الأشجار

سنة بعد سنة نلحظ جميعاً تغير ملامح الجبال التي تفقد أشجارها يومياً بسبب القطع المكثف وغير المنتظم، وتغدو الشجرة صاحبة التاريخ والعطاء وسيلة تدفئة لا تكفي شر برد ليلة واحدة عابرة

التي قُطعت، من خلال الانحناءات الموجودة على الساق مكان القطع العرضي، يمكنك أن تعرف أن عمر الكائن الذي حُكم عليه بالموت أمامك قد يكون عشرات أو مئات السنين.

وسنة بعد سنة نلحظ جميعاً تغير ملامح الجبال التي تفقد أشجارها يومياً بسبب القطع المكثف وغير المنتظم، وتغدو الشجرة صاحبة التاريخ والعطاء وسيلة تدفئة لا تكفي شر برد ليلة واحدة عابرة، فكم من الأشجار تحتاج أسرة ما في الشمال لتقي نفسها برد الشتاء؟ وماذا إن قُطعت جميعها؟ هل سننتظر عشرة أعوام لتنمو أشجار بديلة – في حال وجود من يزرع-

وهل ستستورد الأرض التي كانت تصدر الزيت والزيتون منتجاتها من أرضٍ غريبة؟ إننا نفقد أدواتنا بأيدينا لأننا نعيش ضمن فكرة (الحالة المؤقتة)، شتاءٌ ويمضي، والدفء قادم، أشجار تتلاشى، لا يهم، يمكن أن تعوض بمثيلاتها في أزمنة قادمة، أيام وتعبر، المستقبل شيء ليس في حدود الإدراك أو في مساحات الاهتمام، وإرث الجيل القادم هو المجهول لا أكثر.

يمرّ المشهد من أمامي فأتذكر شجرة زيتون معمّرة في فلسطين، قرأت عنها ترجع بتاريخها لما يزيد عن ألف سنة، أفكر بحال هذه الشجرة كم يشبه حال المقاوم الأصيل حين يتشبث بأرضه ويرفض التخلي عنها، يتكيف مع أحوالها الصعبة ويثبت، ويحتمل ندرة

إن في روح تلك الأشجار مقاومة تشبهنا، وفي أغصانها سلام قد لا ندركه في الشعارات وفي الرسوم التي يبرز فيها غصن الزيتون يحمله الحمام

الماء وتقلب الطقس، ويبقى مصرّاً أن يبقى ناشراً الخضرة، ممتداً عبر السنين، راسخاً لا يتزعزع رغم العواصف والمحن، تنتابني غصة وأفكر كيف بوسعنا إنهاء ذلك كله دون أن نفكر بالعواقب والمآلات.

إن في روح تلك الأشجار مقاومة تشبهنا، وفي أغصانها سلام قد لا ندركه في الشعارات وفي الرسوم التي يبرز فيها غصن الزيتون يحمله الحمام، أو في أسماء عمليات قد لا تحمل ذات الانطباع الذي تشير إليه دائماً، فتجد سلاماً لا يكتمل، وأماناً مهدداً بالزوال، كما تجد كل ما كان بالإمكان التعويل عليه كنقاط قوة، بات نقطة ضعف بسبب العبثية والإهمال وغياب وازع المسؤولية، وكثير من الأنانية لتقتنع بعد ذلك بأن السلام الذي تنشده يحتاج جهوداً جبارة وقناعات صادقة بالتغيير، إنه سلام يفرضه المقاوم بطبعه لكل خطأ، المساند للعدالة في كل محاورها، السلام الرافض لكل ما يحاول تشويهه وسلبه طاقته وقوته.

وفي الحقيقة ليس الإهمال فقط هو المشكلة والأزمة، إنه فقدان الأمل، والنقمة على الحاضر، وسوء استخدام السلطة، والجهل بالواقع وآلية استثمار أدواته بما ينفع، كلها أمورٌ تسلبنا القوة، تسلبنا الأمان، وتسلبنا السلام، وإننا مع المبالغة في إشعار أنفسنا بأننا في موقع المظلومية لا في موضع المسؤولية، تقل درجة صبرنا، وينخفض منسوب المقاومة، وإننا بداعي العاطفة والحاجة، ولأننا نعاني الخذلان، نبرر لأنفسنا ذلك كله، فنفقد ثرواتنا، نفقد ارتباطنا الحقيقي بالأرض، ونفقد بقايا الإنسانية داخلنا. قليلٌ من الاهتمام والتنظيم وكثير من العمل يجعل حياتنا أكثر جدوى، وأكثر دفئاً لا محالة.

كلمات مفتاحية