شبكة اقتصاد الفرقة الرابعة خلال الصراع السوري

2020.01.19 | 09:52 دمشق

alfrqt-alrabt-1200x900.jpg
+A
حجم الخط
-A

ملخّص تنفيذي

طالت الفرقة الرابعة تغييراتٌ خلال سنوات الصراع، حيث تولّى قيادتها ماهر الأسد منذ العام ٢٠١٨، وتنامى دور مكتبها الأمني وتوضّحت هيكليته، واتّسع نطاق صلاحياته وانتشاره الجغرافي خارج العاصمة دمشق. ولا يزال اللواء غسان بلال يترأّس المكتب منذ تشكيله في أواخر تسعينيات القرن الماضي، على الرغم من محاولات الروس لإقصائه. هذا التنامي في دور الفرقة الرابعة إنما يوحي برغبة النظام في تعزيز مؤسساته الخاصة، وإعادة تركيز القوة فيها.

يدير مكتب أمن الفرقة أنشطة اقتصاد الحرب بالتعاون مع شبكة من رجال الأعمال والوسطاء المقرّبين، ممَّن اختيروا بعناية، وأوكِلَت إليهم مهام متعدّدة لدعم النظام، ما منحهم فرصةً أكبر لتطوير دورهم في المنظومة السياسية-الاقتصادية على المستوى المحلي، وربما الوطني. والواقع أن المكتب عمل على تعزيز هيمنته على اقتصاد الحرب منذ العام ٢٠١٦، ليتمكّن من ترسيخ هذه الهيمنة بتسهيلاتٍ من النظام بحلول العام ٢٠١٨.

وقد طرأ تحوّل على طريقة تدخّل الفرقة الرابعة في إدارة مؤسسات الدولة الاقتصادية خلال الصراع. ففي حين كانت تكتفي بالتأثير غير المباشر على عملية اختيار مسؤولي هذه المؤسسات قبل الصراع، والاعتماد على وكلاء لها في إدارتها، أصبحت تديرها بشكل مباشر، كما في مرفأي طرطوس واللاذقية. مع ذلك، تبقى هيمنتها هذه رهن العلاقة بروسيا، وتوجّهات القصر الجمهوري.

مقدّمة

تُعَدّ الفرقة الرابعة وريثة سرايا الدفاع التي كان يترأّسها رفعت الأسد، إذ تشكّلت رسمياً في العام ١٩٨٤ لاستيعاب المنتسبين إلى السرايا التي حُلَّت في العام نفسه. وقد حظيت منذ تشكيلها بمعاملة خاصة من النظام، باعتبارها وحدة نخبةٍ عسكريةٍ مُكلَّفة بحمايته من التهديدات الداخلية والخارجية، وهو ما يفسّر انتشارها في غرب دمشق. كذلك حظيت تشكيلاتها العسكرية بتسليح نوعي، دون نظرائها من فرق الجيش النظامي، إضافةً إلى الامتيازات المادية والمعنوية الممنوحة لعناصرها. وتزايدت أهمية الفرقة مع انضمام ماهر الأسد إليها عقب تخرّجه من الكلية الحربية في حمص، في العام ١٩٨٩، حيث تولّى قيادة كتيبة المهام الخاصة، ثم اللواء المدرّع ٤٢. واعتُبِر ماهر الأسد القائد الفعلي للفرقة على الرغم من تناوب ألوية عدّة على قيادتها، إلى أن تسلّم قيادتها بحلول العام ٢٠١٨.

قبل العام ٢٠١١، كان عديد الفرقة حوالي ١٥ ألف عنصر من مجنّدين وضبّاط، معظمهم من الطائفة العلوية، يتوزّعون على ثلاثة ألوية مدرّعة، ولواء ميكانيكي، وفوج قوات خاصة، وفوج مدفعية. خلال سنوات الصراع، طرأت تغييرات على بنية الفرقة، إذ أُضيفَت إليها تشكيلات عسكرية جديدة، كفوجَي المشاة ٦٦٦ و٣٣٣، ودُمِجَت فيها ميليشيات شيعية، كلواء الإمام الحسين، وعدد من عناصر الميليشيات المحلية المُنحلّة. لا توجد إحصائيات دقيقة حول عدد عناصر الفرقة النظاميين أو مجموعاتها الرديفة، ولكن المؤكّد أنها استطاعت تعويض الخسائر البشرية التي مُنيَت بها خلال مشاركتها، منذ العام ٢٠١١، في معارك درعا وحمص وإدلب وحماة واللاذقية، وفي دمشق ومحيطها، والتي بلغت ٨ آلاف مقاتل بحسب بعض المصادر.

لا توجد دراسات كافية حول الفرقة الرابعة بعد العام ٢٠١١، في حين أن المتوافر منها يستعرض التغييرات التي طالت بنيتها العسكرية، ضمن سياق دراسة تحوّلات الجيش السوري منذ بداية الحركة الاحتجاجية. لذا لن تركّز هذه الدراسة على البنية العسكرية للفرقة أو انتشارها الميداني وعملياتها، بل ستتطرّق إلى بُعدٍ آخر جرى إغفاله، وهو أنشطتها في اقتصاد الحرب، وشبكة اقتصادها التي تشكّلت خلال سنوات الصراع. وتحاول هذه الدراسة الإجابة على التساؤلات التالية: هل شكّل الصراع فرصةً لتزايد أهمية الفرقة الرابعة بالنسبة إلى النظام، عبر انخراطها في أنشطة اقتصاد الحرب؟ وما هي شبكتها الاقتصادية التي تشكّلت جرّاء هذا الانخراط، وأبرز الجهات الفاعلة فيها؟ 

تقع هذه الورقة في ثلاثة أجزاء، يستعرض أوّلها المكتب الأمني للفرقة الرابعة المسؤول عن إدارة أنشطتها غير الشرعية، وكيف تنامى دوره خلال الصراع، في حين يتطرّق الجزء الثاني إلى أنشطة اقتصاد الحرب التي تديرها الفرقة بالتعاون مع شركاء عدّة. أما الجزء الثالث فيسلّط الضوء على آليات تدخّل الفرقة في بيروقراطية الدولة، من خلال استعراض مثال المرافئ.

استند الباحث إلى ما يزيد عن ١٨ مقابلة، أُجري بعضها بواسطة مساعد يقيم في مناطق سيطرة الحكومة السورية، بين آب وكانون الأول من العام ٢٠١٩، مع خبراء، واقتصاديين، وتجّار، وصحافيين مطّلعين، وشخصيات مقرّبة سابقاً من دوائر صنع القرار، ومطّلعة على موضوع الفرقة الرابعة. كذلك شملت المقابلات ضبّاط منشقّين، وعناصر في الفرقة الرابعة ومكتبها الأمني، من المتطوّعين أو العسكريين أو المندوبين المحليين، الذين لا يزالون على رأس عملهم. كما اعتمد الباحث على المواقع الإلكترونية من صحف ومنتديات، والمنشورات ذات الصلة على مواقع التواصل الاجتماعي.

الجزء الأول: تنامي دور المكتب الأمني، متعهّد أنشطة اقتصاد الفرقة الرابعة

اُسّس المكتب الأمني للفرقة الرابعة في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ومعه بدأت الفرقة أنشطتها الاقتصادية غير الشرعية كتجارة الآثار. وقد تنامى دور المكتب عقب اندلاع الحراك الاحتجاجي في العام ٢٠١١، حيث توسّع نطاق صلاحياته وانتشاره الجغرافي، وبات فاعلاً مؤثّراً في اقتصاد الحرب. يقع مقرّ المكتب في منطقة السومرية في دمشق، وتحظى فرق النخبة المُكلَّفة بحماية النظام من أيّ مخاطر تتهدّده، كالحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، بمكاتب أمنية خاصة بها، بينما لا يوجد شيء مشابه في التنظيم العسكري الرسمي لتشكيلات الجيش النظامي، التي تضمّ ضابط أمن مُكلَّف بهذه المهمة، إلى جانب منصبه الرسمي الذي يتولّاه في قطعته العسكرية.

يتولّى مكتب الأمن مهام تتّصل بحفظ أمن ضبّاط الفرقة الرابعة وأفرادها، والقطعات العسكرية والمنشآت المدنية التابعة للفرقة، ناهيك عن حماية الوحدات السكنية الخاصة بعائلات الضبّاط. وعلى الرغم ممّا يوحي به اسمه، يُعَدّ المكتب مسؤولاً أيضاً عن إدارة شبكة ماهر الأسد الاقتصادية، حيث يشكّل صلة الوصل بين ماهر ومجموعة رجال الأعمال الذين يديرون أعماله التجارية. فضلاً عن ذلك، يضطّلع المكتب بدور محوري في انتقاء المرشّحين للانضمام إلى الشبكة أو التعامل معها، أو الراغبين في ذلك من رجال الأعمال والوسطاء، أمثال رجل الأعمال أيمن جابر، صاحب الشركة العربية لدرفلة الحديد، والمساهم في شركة شام القابضة. ويقوم المكتب أيضاً باقتراح مرشّحين لشغل مناصب معيّنة في بيروقراطية الدولة، كالمرافئ والجمارك، إضافةً إلى إدارته الأنشطة الاقتصادية غير الشرعية التي تضطّلع بها الفرقة.

بحلول العقد الأول من القرن الحالي، أدار المكتب الأمني للفرقة تجارة الآثار، فاستُعين بخبراء محليين وأجانب مقابل أجور يومية أو شهرية، لتحديد مواقع الآثار، بحسب شهادة أحد عناصر المخابرات العسكرية في دير الزور آنذاك، الذي قال: "طُلِب منا متابعة وحماية سائحة أميركية كانت تقيم في منطقة صالحية دير الزور في العام ٢٠١٠، ليتبيّن لي لاحقاً من خلال الحديث معها أنها خبيرة آثار تعمل لصالح ماهر الأسد". وكان يُنقَّب عن الآثار بعد تحديد مواقعها، بإشراف المكتب تحت غطاء تنفيذ مهمّات عسكرية أمنية أحياناً. فعلى سبيل المثال، أقامت الفرقة معسكراً تدريبياً في جبل الزاوية، للتمويه على عملية التنقيب عن الآثار في تلك المنطقة. كذلك حضر مندوبون من المكتب إلى موقع ماري الأثري في محافظة دير الزور بحجّة المتابعة الأمنية، عند العثور على اكتشافات أثرية جديدة فيه. إضافةً إلى ذلك، أشرف المكتب على بيع الآثار في السوق السوداء، عبر وسطاء اختارهم بنفسه، وتهريبها عبر المرافئ السورية أو اللبنانية نحو الخارج، بالاعتماد على شبكات حزب الله في أميركا الشمالية والجنوبية، وضمان استلام ثمنها الذي كان يأتي على شكل حوالات مالية مُرسَلة إلى أشخاص ليسوا بالضرورة على علم بهذه الترتيبات. وقد عمل المكتب على حماية أمن هذه الأنشطة وضمان سرّيتها، وغالباً ما كان يعمد إلى اعتقال الوسطاء أو إنهاء عملهم عند اكتشاف أمرهم، أو إفشائهم أسراراً متعلّقة بعملهم، كما حصل مع العميد صبرا خازم، مدير فرع البادية. فهذا الأخير جُمّد عمله عقب افتضاح أمر شحنة آثار قادمة من العراق إلى سوريا.

وقد استُخدِم جزءٌ من الريع الناجم عن الأنشطة الاقتصادية غير الشرعية للفرقة في تمويلها، إلى جانب ما كانت تحصل عليه من ميزانية رسمية من وزارة الدفاع، وميزانية غير محدّدة من القصر الجمهوري.

بعد العام ٢٠١١، توضّحت بنية المكتب الأمني، حيث تشير شهادات ميدانية إليه على أنه وحدة قيادة متكاملة مؤلّفة من مكاتب فرعية، كمكتبَي الديوان والتنظيم. والواقع أن المكتب يعتمد على نظام القطاعات المتّبع في تنظيم فرق الجيش كأساس ناظم لعمله. وبينما كان تواجده مقتصراً على مكتب دمشق المركزي قبل العام ٢٠١١، بات يمتلك مكاتب فرعية مع توسّع الانتشار الجغرافي للفرقة خارج العاصمة. يغطّي كلّ مكتب قطاعاً جغرافياً معيّناً، ينقسم بدوره إلى مناطق، ومنها حمص، ومصياف، ومرفأي طرطوس واللاذقية، ودير الزور، وحلب، ودرعا، والسويداء. وتُعَدّ المكاتب القائمة في حمص ومصياف ودمشق، واللاذقية، وطرطوس، من أنشط فروعه، إذ إنها مسؤولةٌ عن جزء مهمّ من استقطاب المتطوّعين عبر مندوبي الفرقة الرابعة المحليين، فضلاً عن الحركة التجارية النشطة التي تشرف عليها في تلك المناطق.

ترأّس المكتب منذ تشكيله الضابط غسان بلال، الذي كان يشغل مدير مكتب ماهر الأسد. ويعود انتقاء بلال لهذا المنصب إلى الصداقة التي جمعته بماهر منذ أيام الكلية الحربية في العام ١٩٨٩، ولاحقاً خلال تدريبهما في كتيبة المهام الخاصة على يد باسل الأسد قبل وفاته. يُذكَر أن بلال بقي على رأس المكتب، بالرغم من محاولات الروس لإقصائه ضغطاً على ماهر، الذي كان أكثر قرباً من إيران. فقد ضغطت روسيا لإصدار قرار يقضي بترفيع بلال إلى رتبة لواء ركن، وتعيينه رئيساً لأركان المنطقة الجنوبية، في كانون الثاني ٢٠١٩، الأمر الذي دفع ماهر الأسد إلى احتواء القرار قانونياً، عبر الإيعاز بإصدار قرار يقضي بندب بلال مجدداً للفرقة الرابعة. أما قيادة أمن القطاعات فيتولّاها ضابط من الفرقة الرابعة، يُعَدّ الآمر الناهي ضمن حدود قطاعه الجغرافي، ويمتلك صلاحيات التأثير على قرارات مكتب الأمن المركزي.

تجدر الإشارة إلى أن صلاحيات المكتب الأمني للفرقة تنامت بعد العام ٢٠١١، حيث بات مسؤولاً عن تنظيم عقود التطوّع المباشر لصالح الفرقة، وهو إجراء مؤقّت لجأت إليه هذه الأخيرة، كما تشكيلات الجيش الأخرى وأجهزة المخابرات، للتعويض عن الخسائر البشرية التي طالتها جرّاء عملياتها الأمنية والعسكرية، متجاوزةً بذلك وزارة الدفاع المسؤولة رسمياً عن عمليات التطوّع والفرز. ويأخذ التطوّع المباشر في الفرقة الرابعة أحد النمطَين التاليَين: الأول هو النمط الدائم، وفيه يصبح المتطوّع عسكرياً نظامياً مقيّداً في سجلات الفرقة بشكل رسمي. وقد أوقِف هذا النمط بحلول العام ٢٠١٨ لتعود وتتولّاه وزارة الدفاع، كما كان مُتّبَعاً قبل العام ٢٠١١. والثاني هو النمط المؤقّت، الذي لا يزال قائماً، وفيه يحمل المتطوّعون بطاقات أمنية مؤقّتة غير مقيّدة في السجلات العسكرية الرسمية. هؤلاء ينقسمون إما إلى متعاقدين ضمن المجموعات القتالية الميدانية التي يُطلَق عليها اسم "قوات الدعم"، وإما إلى متعاقدين ضمن المجموعات الأمنية المسؤولة عن حماية أنشطة اقتصاد الحرب.

هذا ويرعى المكتب الأمني أنشطة اقتصاد الحرب ويديرها، عبر الوسطاء المحليين، في وقتٍ هو مُكلَّف فيه بمكافحة هذه الأنشطة وحماية الطرق التجارية. ويدخل الريع الناتج عن الأنشطة ضمن بند "دعم المجهود الحربي"، بخلاف ما يُشاع بأنه يعود إلى "صندوق الشهداء"، ليُستخدَم في دفع رواتب المتطوّعين في الفرقة، وتمويل عمليات المكتب، وصفقات اقتصاد الحرب المحلية، ودفع المكافآت لعناصر الفرقة، إلى جانب دعم مبادرات ترعاها الفرقة في مناطق انتشارها، أو موجّهة إلى المنتسبين إليها.

الجزء الثاني: أنشطة اقتصاد الحرب للفرقة الرابعة

راكمت الفرقة الرابعة خلال سنوات الصراع رساميل من أنشطة اقتصاد الحرب التي تعهّدتها، بالتعاون مع رجال أعمال ووسطاء مقرّبين منها، كما تمكّنت من توسيع شبكتها الاقتصادية عبر ضمّ وافدين جدد إليها، أُوكِلَت إليهم مهام دمج ريع اقتصاد الحرب في الاقتصاد الرسمي، والقيام بمبادرات مجتمعية لدعم النظام. أما أبرز الأنشطة التي يديرها المكتب الأمني فهي ثلاثة مترابطة: أولاً، تجارة الخردة والتعفيش، الذي يمكن تعريفه على أنه عمليات نهب الممتلكات العامة والخاصة في المناطق التي تُستعاد السيطرة عليها. ثانياً، الترفيق، حيث تتولّى مجموعات عسكرية رسمية وشبه رسمية مرافقة وحماية شاحنات النقل التجارية من منطقة إلى أخرى، مقابل تقاضي أموالٍ من مالكي هذه البضائع. ثالثاً، الترسيم، حيث يتقاضى القائمون على المعابر الداخلية، وهم من المجموعات العسكرية الرسمية وغير الرسمية، رسوم مالية على مرور البضائع والأفراد من منطقة إلى أخرى.

تجارة الخردة: محمد حمشو

يولي مكتب أمن الفرقة الرابعة منذ العام ٢٠١٣، أهميةً خاصةً لتجارة خردة المعادن (النحاس والحديد)، حتى بات يُطلَق عليه تهكّماً "مكتب أمن المعادن". ينظّم المكتب التجارة ويديرها بدءاً من الحصول على الخردة، وانتهاءً بشحنها عبر مرفأي اللاذقية وطرطوس، وتقاسُم أرباحها مع شركائه. فوفقاً لمتطوّع في الفرقة، على سبيل المثال، دخلت مجموعات التعفيش، ومن خلفها مجموعات أمن الفرقة الرابعة، إلى داريا عقب استعادة قوات المعارضة السيطرة عليها في آب ٢٠١٦، حيث تركّز اهتمام مجموعات التعفيش على الأدوات المنزلية، فيما انصرفت مجموعات الفرقة الرابعة للبحث عن الخردة. وفرضت هذه الأخيرة على مجموعات التعفيش بيع الخردة لها بشكل حصري، عبر مندوبين يشرفون على عمليات الوزن والتحميل، ثم قامت لاحقاً بترفيق شاحنات الخردة إلى معامل الصَهر، ومرافقتها إلى الميناء للتصدير.

والواقع أن للفرقة الرابعة شركاء عدّة في تجارة الخردة، منهم سامر الفوز وعماد حميشو، رجلا الأعمال المتحدّران من اللاذقية، المقرّبان من النظام السوري والشريكان في شركة صروح للإعمار، التي تملك معملاً لصَهر المعادن في منطقة حسياء الصناعية في حمص، ومعملَين لدرفلة الحديد في اللاذقية. لكن أبرز رجال الأعمال في تجارة الخردة هو محمد حمشو، الدمشقي المقرّب من ماهر الأسد منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي.

دخل حمشو عالم رجال الأعمال في العام ١٩٩٦، ليتمكّن لاحقاً من التقرّب من ماهر الأسد إثر تزكيته واعتماده من قبل غسان بلال. فأصبح أحد أذرع ماهر الاقتصادية، بعد أن نجح في إدارة صفقات النفط مع العراق أثناء الحصار الاقتصادي الذي كان مفروضاً على صدام حسين، وفي تبيض أموال العراق في بنك المدينة اللبناني، بين العامَين ٢٠٠٠ و٢٠٠٣، بحسب بعض المصادر. وتمكّن حمشو بدعمٍ من ماهر الأسد، من الحصول على عقود استثمار في قطاعات كانت محسوبة على رجل الأعمال رامي مخلوف، كقطاع الاتصالات، حيث أسّس شركة الاتصالات براق في بداية القرن الحالي. إلا أن أعماله تأثّرت بالعقوبات الغربية والأميركية المفروضة عليه منذ صيف العام ٢٠١١، باعتباره شريك ماهر الأسد، ووسيط أعماله التجارية، ما دفعه إلى التركيز أكثر على أنشطة اقتصاد الحرب التي تضطّلع بها الفرقة الرابعة، مثل تجارة الخردة.

تجدر الإِشارة إلى أن المكتب الأمني للفرقة فرض على الوسطاء المحليين بيع خردة المعادن المُستولى عليها من مناطق العمليات العسكرية في دمشق وريفها، بشكل حصري وبأسعار زهيدة لشركة الصناعات المعدنية - حديد، الواقعة في منطقة عدرا الصناعية، والتابعة لمجموعة حمشو الدولية، حيث كان يتم صهرها وإعادة إنتاجها. ولا تتوافر أرقام رسمية أو بيانات دقيقة حول كميات النحاس والحديد التي جرى توريدها إلى معامل حمشو، لكن لا شكّ في أن مستودعات حمشو ذات المساحة الواسعة في عدرا الصناعية، تحتوي على كميات كبيرة من الخردة. أما قيمة الأرباح المتحصّلة لحمشو من هذه التجارة، فقُدّرَت بحوالى ١٠ ملايين دولار شهرياً، خلال شهرَي كانون الثاني وشباط ٢٠١٩، وكانت أكثر من ذلك قبل هذا التاريخ بزعم الناشط إياد الحسين.

أُبقيَت كميات الحديد المُعاد صهرها في مستودعات حمشو، بغية تغطية الطلب المحلي راهناً ومستقبلاً خلال إعادة الإعمار، فيما صُدّر الجزء الأكبر من خردة النحاس المُعاد صهرها، إلى تركيا عبر الموانئ التي تشرف عليها الفرقة الرابعة . هذا واحتلّت صادرات النحاس المرتبة الأول بين صادرات الخام المعدنية في العام ٢٠١٧، بقيمةٍ بلغت حوالي ١٤ مليون دولار أميركي وفقاً لمركز التجارة الدولية، في حين كان القسم المتبقّي من النحاس يذهب لتغطية طلب السوق المحلية، عبر تعاقدات حكومية تُجيَّر لصالح حمشو.

والواقع أن تجارة الخردة المزدهرة أتاحت لحمشو تولّي رئاسة المجلس السوري للمعادن والصلب، المُحدَث في العام ٢٠١٥، والمُكلَّف بالدفاع عن مصالح صناعة المعادن السورية، بما في ذلك تنظيم أسعار بيع وشراء المعادن والصلب في السوق. ومع أن المجلس أُلغي بقرار من مجلس الوزراء في آب ٢٠١٦، من دون توضيح الأسباب، لم تتأثّر تجارة الخردة التي يضطّلع بها حمشو، ومكانته في هذا القطاع، وهو ما يمكن تفسيره بالأسباب التالية: أولاً، يهمين حمشو، إلى جانب رجال الأعمال النافذين في صناعة الحديد، على قرارات اللجنة السورية لاستجرار الخردة، المؤسَّسة في العام ٢٠١٤ لمنع تهريب خردة المعادن، ولتنظيم وتسهيل نقلها إلى الحرفيين والمنشآت والمعامل. ثانياً، يستأثر حمشو ونظراؤه بالجزء الأكبر من الخردة التي توفّرها هذه اللجنة، الأمر الذي انعكس سلباً، على سبيل المثال، على إنتاج شركة حديد حماة الحكومية، التي تعرّضت لإمكانية الإغلاق لعدم قدرتها على استجرار ما يكفي من كميات الخردة لمواصلة عملها. ثالثاً، لا تزال أعمال حمشو مستمرة ومزدهرة في المناطق التي استعادت قوات الحكومة السورية السيطرة عليها، كما في القابون، بدليل عدم توقّف شركته في عدرا عن الإنتاج. رابعاً، يتمتّع حمشو والمتنفّذون في القطاع بحماية الفرقة الرابعة، حتى إنهم استعانوا بها لإقصاء منافسيهم المحليين عن العمل في هذا المجال بغية التفرّد به، كما حصل مع إغلاق نحو ٣٠ مصنعاً لصهر الحديد في المنطقة الصناعية في الشيخ نجار، في حلب، حيث تنتشر حواجز الفرقة الرابعة.  

وسطاء الترفيق: أبو علي خضر أو "أبو الفقراء"

لم يكن الترفيق وليد الأزمة، فهو من اختصاص مديرية الجمارك التي تتبع لوزارة المالية، ويُمارَس من قبل ضابطتَي ترفيق حمص ودمشق. كذلك مارسه الأمن العسكري بشكل غير مُعلَن قبل العام ٢٠١١، عبر دورياته المنتشرة على طرق التجارة الرئيسية، والمفارز الحدودية، لحماية قوافل التجّار والمهرّبين على حدّ سواء، وفقاً لأحد تجّار الساحل. وقد حظي نشاط الأمن العسكري في المناطق الحدودية مع العراق بحماية الفرقة الرابعة، باعتبارها المسؤولة أمنياً عن هذا الملف، وذلك مقابل مبالغ مالية يدفعها مسؤولوه للفرقة شهرياً. فبحسب أحد عناصر المخابرات العسكرية في دير الزور آنذاك، كان على اللواء جامع جامع، الذي كان يتولّى رئاسة فرع دير الزور للمخابرات العسكرية منذ العام ٢٠٠٨، وكان يُعَدّ من رجال ماهر الأسد، إرسال مبالغ مالية محدّدة عن كل مفرزة حدودية إلى مكتب الفرقة. هذا الأخير حدّد مبلغاً قدره ٥٠ مليون ليرة سورية، في العام ٢٠١٠، عن مفرزة البوكمال، ومبلغاً قدره ٣٠ مليون ليرة عن مفرزة الميادين، أُرسِلا إليه شهرياً بشكل نقدي.

لكن منذ العام ٢٠١٣، زاحمت مجموعات عسكرية وشبه عسكرية مديرية الجمارك في ممارسة الترفيق، حيث تولّته مجموعات القاطرجي الرديفة للجيش السوري، وقوات الدفاع الوطني، منذ العام ٢٠١٤، مع انخفاض الدعم المقدّم لها. كما نشطت فيه مجموعات تتبع للفروع الأمنية، وجمعية البستان الخيرية التابعة لرجل الأعمال رامي مخلوف، إضافةً إلى الفرقة الرابعة التي نشطت فيه بشكل مباشر عبر مجموعاتها الرديفة. ثم أصبح الترفيق أكثر تنظيماً في العام ٢٠١٥، حينما اضطّلعت به شركات تجارية وأمنية خاصة تنتشر مكاتبها في المحافظات، ويملكها رجال أعمال مقرّبون من النظام، ومن أبرزها شركة النور التجارية، وشركة الحصن للترفيق، وشركة القلعة للحراسات الأمنية، وشركة أحمد مصطفى للتجارة، وشركة الربيع، ومكتب الترفيق المتحدة إخوان.

يجدر ذكره أن الترفيق يتمّ بعلم اللجان العسكرية الأمنية في المحافظات، فلا يُقام حاجز عسكري إلا بأمر رسمي ومهمة صادرَين عن هذه اللجان، وممّا يرجّح ذلك قرار اللجنة العسكرية الأمنية في حلب إلغاء الترفيق. فضلاً عن ذلك، عمدت هذه اللجان إلى تنظيم حقّ الانتفاع من الترفيق، حيث تولّت مجموعات القاطرجي ترفيق خطّ حمص الشمالي، فيما قامت مجموعات أمن الفرقة الرابعة بترفيق خطّ حمص الجنوبي الواصل إلى دمشق، وفقاً لأحد مهجّري ريف حمص الشمالي.

بحلول العام ٢٠١٨، تمكّن أمن الفرقة من الهيمنة على تجارة الترفيق، بعد إقصاء منافسيه الرئيسيين العاملين في المجال، ولا سيما جمعية البستان الخيرية، والدفاع الوطني، مُستعيناً بأوامر رسمية صادرة عن السلطات الأمنية والعسكرية. وممّا ساعده في تعزيز هيمنته هذه اضطّلاعُه بمسؤولية حماية المرافئ، والانتشار على المعابر الداخلية.

والواقع أن مكتب أمن الفرقة اختار بعناية فائقة الوسطاء المحليين الذين أدار الترفيق عبرهم، وفق عملية طويلة تبدأ بترشيح اسم الوسيط من قبل المندوب المحلي للفرقة، والذي ليس بالضرورة عسكرياً، ثم يقوم ضابط مُعتَمد من الفرقة بتزكيته، ليُرفَع اسمه بعد ذلك إلى مكتب أمن الفرقة المركزي، الذي يقرّر ما إذا كان يعتمده أم لا. ومن أبرز هؤلاء الوسطاء خضر علي طاهر، المعروف باسم أبو علي خضر، الذي لم يكن معروفاً على نطاق واسع قبل الأزمة،ولكنه أصبح من أهمّ متعهّدي الترفيق المحسوبين على الفرقة الرابعة منذ العام ٢٠١٦. وما كان خضر لينال هذه الحظوة لولا اعتماده من قبل مكتب أمن الفرقة، بحكم صلاته بقادة مجموعات شبه عسكرية عاملة مع كلّ من المخابرات الجوية والفرقة الرابعة.

أدار أبو علي خضر الترفيق في العام ٢٠١٦ بالحدّ الأدنى من التنظيم، كما يدلّ عليه غياب الإيصالات أو التقارير المالية. فهو لا يقبل الدفع إلا نقداً وعقب إتمام عملية ترفيق الشاحنات، معتمداً على شركاء آخرين، ثم لاحقاً على مجموعات أمن الفرقة الرابعة، التي قام بتطويعها من أهالي منطقته صافيتا، والتي يترأّسها شقيق زوجته، إيهاب الراعي. وقد شهدت عملية الترفيق تطوّراً ملحوظاً مع تأسيس خضر شركة القلعة للحماية والحراسة والخدمات الأمنية في العام ٢٠١٧، التي تولّت رسمياً عقود الترفيق، ونظّمتها وفق تقارير مالية. ويمكن القول إن الشركة أصبحت الذراع التنفيذي غير الرسمي لمكتب أمن الفرقة الرابعة، بما أنها لا تزال تعتمد على كوادر مجموعاته ممَّن يحملون بطاقاته الأمنية. كما إنها تعمل وفق المبدأ التي تتّبعه قطاعاته، فثمة مؤشّرات على أن قادة القطاعات في الشركة هم أنفسهم قادة قطاعات أمن الفرقة الرابعة. ناهيك عن ذلك، تنشط الشركة في مناطق انتشار حواجز الفرقة وبحمايتها، حيث يتولّى حاجز الفرقة التدقيق الأمني، في حين يتولّى حاجز شركة القلعة المتواجد خلف الحاجز عملية الترفيق.

أُدمِج أبو علي خضر في الشبكة الاقتصادية لماهر الأسد في العام ٢٠١٧، وبات أحد المحسوبين عليه، فاستطاع بفعل هذه المكانة مواجهة خصومه المحليين، كوزير الداخلية محمد خالد الرحمون، الذي أصدر تعميماً في شباط ٢٠١٩ يقضي بعدم تعامل وحدات الشرطة مع خضر أو استقباله، ليعود ويلغي مضمون التعميم في آذار من العام نفسه. وفي السياق نفسه، اضطرّت قناة الإخبارية السورية إلى سحب لقائها من على شبكة الإنترنت مع فارس الشهابي، رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، إثر ذكر اسم أبو علي خضر بشكل صريح، باعتباره المسؤول عن فرض الإتاوات على معامل حلب.

وأُنيطَت بخضر مهمة استثمار الريع الذي ولّدته الفرقة، وإدماجه في الاقتصاد الرسمي، حيث أسّس ١١ استثماراً منذ العام ٢٠١٧، ولغاية منتصف كانون الأول ٢٠١٩، على شكل شركات ومشاريع تركّزت في قطاعات الاتصالات، والمقاولات، والنقل، والسياحة، والحماية الأمنية. يُذكَر أن بعض هذه الشركات مملوكٌ بالكامل لخضر، وبعضها الآخر بالتشارك مع شركائه في الترفيق، أمثال إيهاب الراعي.

فضلاً عن ذلك، اعتُمِد على خضر لدعم مبادراتٍ اجتماعيةٍ محليةٍ ورعايتها، حتى أُطلِق عليه لقب "أبو الفقراء". وشملت تلك المبادرات فريق "سوا ورح نبقى سوا"، وفريق بصمة شباب سورية، الناشط في أرياف الشيخ بدر، وبانياس، ودريكيش، ومنطقته صافيتا، وجميعها تقع في محافظة طرطوس. وقد يكون تركيز أبو علي خضر على هذه المحافظة نابعاً من رغبته في خدمة أهالي محافظته، واستثمار ذلك سياسياً لاحقاً عبر الترشّح للانتخابات المحلية أو البرلمانية، أو توجيهاً من النظام لإعادة بناء شبكاته الزبائنية، وامتصاص نقمة مواليه في المحافظة، التي قدّمت أكثر من ٢٠٠ ألف قتيل منذ العام ٢٠١١، ولغاية خريف العام ٢٠١٨، وفقاً لبعض المصادر.

متعهّدو الترسيم: شبكات تجّار ومهرّبون

كانت ظاهرة الترسيم وليدة الأزمة، وبرزت بعد أن توضّحت الحدود الداخلية لمناطق سيطرة أطراف الصراع، التي عمدت إلى نشر حواجزها على المعابر الداخلية الفاصلة بين مناطقها ومناطق خصومها. وما لبثت القوى المسؤولة عن هذه المعابر أن تنبّهت إلى الاعتمادية التجارية القائمة بين مناطق السيطرة المختلفة، وإلى المنفعة المتبادلة من إمكانية استثمار هذه المعابر، الأمر الذي دفعها إلى فرض رسوم مالية، تُعرَف بالـ"الإتاوات أو الخوّات"، على مرور البضائع والأفراد من منطقة إلى أخرى. 

وقد شاركت قوى عدّة في عمليات الترسيم، مثل دوريات الجمارك والأمن العسكري، ثم أخذت الفرقة الرابعة، عقب التدخّل الروسي في أيلول ٢٠١٥، تزيد هيمنتها التدريجية على هذا النشاط في مناطق سيطرة النظام. هذا التدخّل خفّف الضغط الميداني على قوات الفرقة، وحَدّ من استنزافها، مع تولّي القوات الروسية مهام ميدانية متقدّمة في قيادة العمليات العسكرية ضدّ فصائل المعارضة، الأمر الذي أتاح للفرقة إعادة الانتشار، والتركيز أكثر على أنشطة اقتصاد الحرب.

بحلول العام ٢٠١٨، أصبحت الفرقة الرابعة جهةً مهيمنةً في مجال الترسيم، وإن لم تكن الوحيدة، إذ لا تزال تفرض الترسيمَ حواجزُ تابعةٌ للفروع الأمنية، وأخرى لتشكيلات الجيش وبعض قواته الرديفة. وقد تمكّنت الفرقة من تحقيق هذه الهيمنة بفضل نشرها حواجز على الأوتسترادات الرئيسية الداخلية والدولية، وأبرزها أوتوستراد دمشق-حلب الدولي (M٥)، وأوتوستراد اللاذقية-حلب الدولي (M٤)، وأوتوستراد دمشق-بيروت الدولي (M٢). وما ساهم أيضاً في هذه الهيمنة إقامتها حواجز على المعابر الحدودية الخاضعة لسيطرة قوات النظام السوري، ومنها معبر المصنع-يابوس بين سوريا ولبنان، ومعبر البوكمال-القائم بين سوريا والعراق، ومعبر نصيب-جابر بين سوريا والأردن. ثم إن الفرقة نشرت أيضاً حواجز على الطرق الفرعية المحاذية لمناطق تواجد المنشآت الصناعية، كما في منطقة الشيخ نجار في حلب، ومقالع الحجر في مناطق السلمية، وصيدنايا، وعدرا، والضمير في ريف دمشق.

أما تحديد قيمة عقد الترسيم الخاص بكلّ معبر، فيقوم به مكتب أمن الفرقة استناداً إلى الحركة التجارية للمنطقة. ثم يمنح المكتب العقد لوسطاء كبار مقرّبين منه، ممَّن لديهم باع في عمليات التهريب، أو هم من كبار التجّار، نظراً إلى أنهم الأقدر على إدارة هذا النشاط، بفضل شبكة علاقاتهم بمختلف أطراف الصراع، وخبرتهم في إدارة الأعمال التجارية. وبهذه الطريقة حصل رجل الأعمال خالد حبوباتي، الذي يشغل منصب رئيس منظمة الهلال الأحمر السوري منذ أواخر العام ٢٠١٦، على عقد ترسيم معبر خربة غزالة في درعا، في العام ٢٠١٧، كمكافأة له لدعمه النظام، وتعويضاً عن الخسائر التي طالته منذ بدء الحراك الاحتجاجي، حيث توقّفت تجارته في مادة قمر الدين المجفّف في الغوطة الشرقية، وأُغلِق مشروعه "كازينو دمشق" في العام ٢٠١١. وكان على حبوباتي دفع مبلغ ٧٠٠ مليون ليرة سورية شهرياً للمكتب الأمني.

كذلك برز اسم المهرّب يوسف خانات، المُلقَّب بغوار، من منطقة تلكلخ كأشهر متعهّدي معابر الترسيم منذ العام ٢٠١٣، حيث نال بشكل متكرّر عقود ترسيم المعابر الداخلية في مناطق ريف حمص الشمالي، وحماة، وحلب، بفعل شبكة روابطه بالمخابرات الجوية والفرقة الرابعة، وعلاقاته المحلية التي شكّلها خلال عمله السابق في التهريب.

وكان على الوسطاء الكبار دفع قيمة عقد الترسيم نقداً لمكتب أمن الفرقة، ثم مَنح عقد الترسيم لوسطاء محليين عن طريق المزادات. فوفقاً لأحد مهجّري ريف حمص الشمالي، كان غوار يفتتح مزاد عقود ترسيم معابر ريف حمص الشمالي شهرياً في خيمة أبو رحيل. وكان العقد يُمنَح للتاجر المحلي صاحب العرض الأكبر، بعد دفع مبلغ العقد نقداً لغوار، ليحقّ له بعد ذلك إدخال كمية من البضائع خلال فترة زمنية محدّدة، غالباً ما كانت تُحدَّد بشهر. ومن أبرز الوسطاء المحليين الذين كانوا شركاء لغوار في تجارة الترسيم، علي مهنا من بلدة يحمور في محافظة طرطوس، قائد ما يُعرَف بفوج السحابات، إحدى التشكيلات الرديفة لقوات النمر التي يترأّسها العميد سهيل الحسن، ورجلا الأعمال رامز ورامي الطبل المحسوبان على العميد الحسن. يُذكَر أن هذه الشراكات والعلاقات أتت نتيجة العمل الميداني المشترك لمجموعات الفرقة الرابعة، والمخابرات الجوية، بما فيها مجموعات النمر. وأتت أيضاً نتيجة قرب اللواء جميل الحسن، الذي كان مدير المخابرات الجوية (بين العامَين ٢٠٠٩ و٢٠١٩)، التي يتبع لها العميد سهيل الحسن، من اللواء ماهر الأسد. لكن تجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين قوات النمر، التي أصبح اسمها "الفرقة ٢٥ مهام خاصة" بحلول أيلول ٢٠١٩، وبين الفرقة الرابعة، قد تأثّرت سلباً إثر دعم روسيا للعميد الحسن في ظلّ الضغوط التي مارستها على الفرقة الرابعة، واستبدال اللواء جميل الحسن بنائبه اللواء غسان إسماعيل الذي لا تربطه علاقات وثيقة بماهر الأسد، في تموز ٢٠١٩.

الجزء الثالث: تدخّل الفرقة الرابعة في مؤسسات الدولة

لجأت الفرقة الرابعة قبل الأزمة إلى التأثير في عملية اختيار مسؤولي الدولة، بشكل غير مباشر وعبر أنماط متعدّدة. فكان ماهر الأسد يطلب من أخيه بشار تعيين شخصيات محدّدة في إدارات المرافئ الخمسة في سوريا، وهي اللاذقية، وطرطوس، وبانياس، وأرواد، وجبلة، باعتبار أن القرار الفعلي في هذا الشأن يعود إليه، وإن كان التعيين يصدر رسمياً بقرار من رئيس الحكومة. وغالباً ما كان يتمّ تعيين شخصيات عليها ملفات فساد ليسهل التحكّم بها، وإزاحتها في وقت لاحق بداعي محاربة الفساد. بهذه الطريقة عُيّن سليمان بالوش مديراً عاماً لمرفأ اللاذقية في العام ٢٠٠٧، ثم مُدّد له في العام ٢٠١٠ بناءً على توصية من وزير النقل آنذاك يعرب بدر، على الرغم من بلوغه السنّ القانونية للتقاعد، ليجري لاحقاً إعفاؤه من منصبه في العام ٢٠١١ بقرار من رئيس الحكومة آنذاك، عادل سفر، بتهمة التقصير وارتكاب تجاوزات كبيرة في المرفأ. إضافةً إلى ذلك، كان ماهر الأسد يوجّه مدير المكتب الأمني، غسان بلال، للتواصل مع رئيس مجلس الوزراء والوزراء، والطلب منهم تعيين شخصيات محدّدة في بيروقراطية الدولة، أو تسهيل أعمال تتّصل بأنشطته الاقتصادية.

والواقع أن الفرقة الرابعة تولي أهميةً للمرافئ نظراً إلى أنها مثّلت في المتوسط ٧٠ في المئة من حجم التجارة السلعية الخارجية غير النفطية، بين العامَين ٢٠٠٢ و٢٠١٠، وتدرّ موارد مالية مهمّة من تجارة الترانزيت. هذا وتُعَدّ المرافئ مهمةً للفرقة في إدارة عمليات التهريب التي تضطّلع بها، في مجال تجارة الآثار والمخدرات.

لذا مارست الفرقة عبر مكتبها الأمني تأثيراً في اختيار الشخصيات المرشّحة لنيل مناصب معيّنة في المؤسسات أو الإدارات ذات الأهمية الاقتصادية، ولا سيما رئيس مديرية العمليات والاستثمار في مرفأي طرطوس واللاذقية، بما أن مَن يشغل هذه المناصب مرشّح بشكل قوي لتوليّ منصب مدير عام مرفأ. هذا ما حصل، على سبيل المثال، مع سليمان بالوش، الذي كان رئيساً لمديرية الاستثمار في مرفأ اللاذقية، قبل تولّيه منصب مدير عام المرفأ. وفي هذا السياق، شرح أحد الخبراء الذي عملوا مع الحكومة السورية قبل الأزمة، آلية انتقاء الشخصيات المرشّحة لنيل المناصب ذات الأهمية الاقتصادية، قائلاً: "يضمّ مجلس الوزراء مكتباً خاصاً برئاسة عميد، يرتبط بالمكتب الأمني الخاص في القصر الجمهوري، ويُجري مسحاً أمنياً حول الشخصيات المرشّحة لنيل مناصب مهمّة ذات طبيعة اقتصادية أو تنموية، وذلك بالتعاون مع الجهات الأمنية، من ضمنها الفرقة الرابعة. فتُرسَل الدراسة الأمنية إلى مكتب القصر الذي يعرض الأمر على الرئيس، الذي يقرّر ما إذا كان يعتمد الشخص أم لا".

ويبدو أن تحوّلاً طرأ على مستوى تدخّل الفرقة الرابعة في إدارة مؤسسات الدولة الاقتصادية، في سياق تنامي نفوذ ماهر الأسد داخل القصر الجمهوري، عقب خروج آل طلاس من سوريا، ومقتل اللواء آصف شوكت، زوج أخته بشرى، في العام ٢٠١٢، إلى جانب انحسار تأثير آل مخلوف داخل القصر ابتداءً من العام ٢٠١٦، عقب وفاة والدة بشار، آنيسة، ومرض الخال محمد مخلوف، "عرّاب العائلة". وقد تجلّى هذا التحوّل في انتشار قوات الفرقة الرابعة في إدارة مرفأي اللاذقية وطرطوس، وتولّيها إدارة المرفأ بنفسها عوضاً عن الاعتماد على وكلاء لها.

جدير ذكره أن وجود الفرقة الرابعة في مرفأي اللاذقية وطرطوس، يعود إلى العام ٢٠١٤، حين عملت على تأسيس إدارة تابعة لمكتبها الأمني، ترتبط بها مكاتب فرعية تتحكّم بجميع مفاصل العمل الإداري في المرفأين. وتتولّى الفرقة بنفسها إفراغ حاويات نقل البضائع العائدة إلى القصر الجمهوري والواردة من إيران، أو المملوكة لأحد التجّار الذين تقوم بترفيق بضائعهم، إضافةً إلى تفتيش الحاويات الأخرى، والإشراف على تفريغها. هذا وتستمر بالاضطّلاع بدور مركزي عبر مكتبها الأمني، في طرح وتزكية مرشّحين لوزير النقل، لتعيينهم مدراء فرعيين في المرفأين. كما أصبح للفرقة مندوبوها المعتمدون من مكاتب التخليص الجمركي، وأبرزهم شركة الأسطورة للنقل والتخليص الجمركي، العائدة ملكيّتها إلى رجلَي الأعمال خضر علي طاهر، وعصام عيسى إسماعيل، مدير الشركة السورية للمعادن والاستثمار.

بيد أن هيمنة الفرقة الرابعة على المرفأين تتأثّر باعتبارات الحليفَين روسيا وإيران، إذ تحجّم دورها في مرفأ طرطوس بعد توقيع الحكومة السورية عقد استثمار المرفأ مع شركة "أس تي جي إنجنيرينغ" الروسية مطلع العام ٢٠١٩. ويملك هذه الشركة رجل الأعمال زاخيد شاخسوفاروف، المقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحسب بعض المصادر،فيما يقتصر تواجدها هناك على مكتب واحد مُكلَّف بتسهيل الأعمال ذات الصلة بالفرقة الرابعة، وشحنات التجّار التي يقوم مكتب أمن الفرقة بترفيقها. كما إن الفرقة لم تَعُد الجهة الأمنية المهيمنة في المرفأ، إذ تتولّى نقطة تفتيش روسية، تقع خلف نقطة الجمارك السورية، عملية تفتيش الشحنات. في مقابل ذلك، لم تتأثّر هيمنة الفرقة على مرفأ اللاذقية حتى الآن، حيث لا تزال تحتفظ بإدارتها ومكاتبها الفرعية في الميناء، في انتظار حسم الجهة التي ستتولّى عقد استثمار المرفأ. لكن ثمة حدود لهذه الهيمنة لا تستطيع الفرقة تجاوزها، إذ تبقى مُقيَّدةً بموافقة القصر الجمهوري مُمثَّلة بالرئيس. فقد حاول أحد المقرّبين من الفرقة مثلاً تولّي منصب مدير عام شركة مرفأ اللاذقية، أثناء التغييرات التي طالت بعض مديريات المرفأ في آب ٢٠١٩، لكنه فشل في ذلك، إذ لم يحظَ بموافقة الرئيس الذي يدعم مدير المرفأ الحالي، أمجد سليمان، المُعيَّن منذ العام ٢٠١٤.

 خاتمة

لجأ النظام إلى تعزيز مؤسساته الخاصة دون مؤسسات الدولة، وإعادة تركيز القوة فيها، فكانت النتيجة أن تنامى خلال الصراع دور الفرقة الرابعة، إحدى مؤسساته، ولا سيما مكتبها الأمني، حيث اعتمد النظام عليها للهيمنة على الريع المتولّد عن اقتصاد الحرب، وحَصْر حقّ الانتفاع منه بشكل مباشر بالفرقة دون شركائه الآخرين. ولعلّ ذلك يلقي الضوء على مساعي الفرقة للهيمنة على أنشطة اقتصاد الحرب، وما كان ذلك ليتحقّق لولا تسهيلات وامتيازات منحها إيّاها النظام، ولولا غضّ النظر عن أنشطتها، وعدم التعرّض لشركائها.

وقد وُظّفَت أنشطة اقتصاد الحرب التي اضطّلعت بها الفرقة، في دعم النظام باستخدام جزءٍ من الريع المتحصّل عن هذه الأنشطة، لإعادة بناء شبكاته المحلية في مناطق موالية له، ولا سيما في الساحل السوري. وقد نُفّذ ذلك عبر دعم مبادرات مجتمعية وأنشطة خيرية أدارتها الفرقة بشكل مباشر، أو عن طريق وسطائها المحليين. كذلك توسّعت شبكات اقتصاد النظام غير الرسمية في الاقتصاد الرسمي، من خلال تحويل ريع اقتصاد الحرب إلى استثمارات وشركات ومشاريع، تولّى تأسيسها رجال الأعمال الوافدين إلى شبكة ماهر الأسد الاقتصادية، الذين مُنِحوا حقّ امتياز الانتفاع من أنشطة اقتصاد الحرب، في الوقت الذي تضرّرت فيه مصالحهم جرّاء الحركة الاحتجاجية، والعقوبات الغربية والأميركية. فضلاً عن ذلك، رُبِطَت الاقتصادات المحلية والجهات الفاعلة فيها بشبكات اقتصاد النظام، وجرى التحكّم بها عبر شبكةٍ من الوسطاء.

نتيجةً لذلك، أفرزت أنشطة اقتصاد الحرب التي انخرطت فيها الفرقة الرابعة، شبكاتٍ محليةً أُدمِجَت في شبكة اقتصاد الفرقة، التي يحرّكها مكتبها الأمني. وهكذا أصبح للوسطاء الجدد المحرّكين لهذه الشبكات، والمتمتّعين بالثروة والحظوة لدى النظام، فرصة أكبر لتطوير دورهم بوصفهم لاعبين في المشهد السياسي-الاقتصادي المحلي، وربما الوطني.

بيد أن شبكة اقتصاد الفرقة الرابعة غير الرسمية، وإن تنامت خلال سنوات الصراع، تبقى هشّةً في ظلّ مزاحمة روسيا لها. فهذه الأخيرة تعمل على بسط هيمنتها أكثر على مصادر الريع في سوريا، مثل المرافئ والثروات الطبيعية. هذا ناهيك عن أن الشبكة تخضع لتوجّهات القصر مُمثَّلة ببشار الأسد، الذي يمتلك أوراق قوة وضغط تتيح له إضعافها واحتواءها.

 أيمن الدسوقي هو باحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، مساهم في مشروع "زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا"، في برنامج مسارات الشرق الأوسط، الذي يُشرِف عليه مركز روبرت شومان للدراسات العليا، التابع لمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا. يركّز الدسوقي في عمله على الاقتصاد السياسي، والحوكمة، والمجالس المحلية في سوريا.

 

للاطلاع على الدراسة من المصدر اضغط هنا 

كلمات مفتاحية