icon
التغطية الحية

سوسيولوجيا الغناء الشعبي.. وادي الفرات أنموذجاً

2023.08.14 | 21:19 دمشق

الفرات
+A
حجم الخط
-A

إذا كان إنتاج المعرفة هو أهم ما يميز الإنسان، فإن اللغة هي الحامل الموضوعي لتلك المعرفة. ولا يمكن دراسة الظواهر الاجتماعية لأي جماعة بشرية بدون معرفة وثيقة بلغة تلك الجماعة. ولذلك تعتبر اللغة من أسمى مظاهر الحضارة، وأهم حلقة في سلسلة التطور البشري. وتّتبع العلاقة بين الظواهر الاجتماعية والظواهر اللغوية، لا يتم إلا من خلال النظام الاجتماعي: "العادات والتقاليد والفنون والآداب" وقد تفرغ "علم الاجتماع اللغوي" Linguistic Sociology لمعالجة الظواهر اللغوية من خلال العلاقات التي تربطها بمختلف الظواهر الاجتماعية. من حيث أن تلك الظواهر هي نتاج العقل الجمعي لهذه الجماعة أو تلك. والتغيرات التي تطرأ على اللغة هي ذات طابع اجتماعي يخضع لطبيعة الجماعة، وما تقتضيه حياتهم، من حيث أن اللغة هي بمثابة عقد اجتماعي.

 والذخيرة اللغوية لأي جماعة تنقسم إلى قسمين: أولهما الذخيرة اللغوية الرسمية والتي يتم من خلالها التعليم والمخاطبات والمكاتبات على مستوى الأمة. أمّا النموذج الثاني فتمثله اللهجات، وما أكثرها في الوطن العربي!! وهي تمثل التفاعل اليومي بين أفرد الجماعات الصغرى، أو الفرعية، داخل الأمة.  وهذا ما جعل علم الاجتماع يهتم بالبحث في علاقة اللغة بالحياة الاجتماعية، ويبين لنا أثر الحياة الاجتماعية في الظواهر اللغوية. " وعليه فإن مهمة السوسيولوجي دراسة اللغة في ضوء وجودها الاجتماعي". ولأن العرب كأمة لم تقم لهم دولة تجمعهم إلا مع مجيء الإسلام، فإن مفهوم الأمة العربية من المفاهيم التي شاركت في تحديد مدلوله جميع الأقوام التي دخلت الإسلام. وهذا أحد أسباب التنوع والاختلاف بين اللهجات السائدة في العالم العربي، إضافة لأسباب أخرى تتعلق بطبيعة حياة الجماعات التي تتوزع على مساحة الوطن العربي. واللهجات مثلها مثل اللغة غير محصنة أمام دخول المفردات الجديدة، والأجنبية أيضا، حسب مقتضى الاستعمال. وخير مثال على ذلك تلك الأغنية التي تقول:" أرد اشتري صغيرون، بگلاس أربيه/ لمن حلا بالعين، أهله اندعو بيه". نتيجة الاحتلال الإنكليزي للعراق، دخلت كلمة glass في الاستعمال اليومي، وشاعت، لدرجة أصبحت تستعمل بين العامة.

حياة الناس في وادي الفرات لم تدخل عليها التنمية، والرفاهية، هذا قديما، أما حديثا فقد أصبحت أسوأ، وذات مشاكل مترابطة ومتداخلة، لذلك سيبقى الغناء حاملا موضوعيا، من حيث أن الأغنية هي نتاج الوجدان الجماعي

وقد نقل المسعودي عن “ابن خرداذبه” أن الحداء في العرب "كان قبل الغناء وأنه أول السماع والترجيع فيهم، ثمَّ ما لبث أن اشتق الغناء منه وذكر أن غناء العرب كان النصب، وأنه ينقسم إلى ثلاثة أجناس: الركباني، والسناد الثقيل، والهزج الخفيف".

والحداء، والأجناس المشتقة منه ما زالت قائمة إلى يومنا هذا إذا تتبعنا مسارات تطورها، والتغيرات التي طرأت عليها.

بدأت حركة الغناء العربي الموثقة في المدينة المنورة، في عهد الخليفة عثمان، في تلك الفترة لمع نجم (طويس)، مذ ذاك أخذ البناء الفني-الموسيقي في الظهور، برعاية اجتماعية واضحة المعالم، وبلغ ذروته أيام الدولة العباسية، فكان ابن سريج، ومعبد، وعقيلة، وابن محرز، والغريض، وابن أبي عتيق، وغيرهم. فوضع يونس الكاتب كتابيه الشهيرين(النغم) و(القيان)، متقدما على أبي الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني بأكثر من مئتي عام.

وهنا لا بدّ من السؤال التالي: هل يمكننا الإقرار بوجود وظائف للأغنية داخل إطارها الاجتماعيّ والثقافيّ؟ وإن كان ذلك، فكيف السبيل إلى إبراز قيمة دلالات الأغنيّة الشعبيّة في التعبير عن هويّة المجتمع؟

من الملاحظ على الغناء الشعبي في وادي الفرات التأكيد على قضيتين في أغلب التراث الغنائي، القضية الأولى تشير بوضوح إلى غياب دولة الحق والقانون، وعدم وجودها كمرجع، هذا الغياب رفع شأن القوة الفردية للأشخاص سواء كانت ذاتية، أو مستمدة من الأسرة أو العشيرة: (يمّ التعاليلي.. يمّ التعاليلي/ آني بجمر الغضا، وانت بتعاليلي/عند ما يغيب الگمر سمرة تعاليلي/ تشوف من يدحمچ وآني اجرع الميّه؟) في الخاتمة نلاحظ التأكيد على جاهزيّة الحبيب لحماية حبيبته، لا بل وفي تلك الجملة (تشوف من يدحمچ وآني اجرع الميّه؟) نوع من التحدي أيضا. ولولا أن إمكانية التعدي على المحبوبة قائمة، لما ذكر الشاعر الغنائي استعداده لحمايتها.

أو (أنشدك عن عزيز الروح وين صار/ وما تدري عليه شكثر ون صار/ لو ان لي بالعشيرة ربع ونصار، يعي چان ادعوا وياك بيّا ) في هذه العتابا يفتقد العاشق لمن يسانده في الوصول إلى حبيبته. فالقوة في المجتمع القبلي تستمد من الكثرة المساندة. وهو في هذه العتابا يفتقد ذلك السند الذي يمثله الربع والأنصار، وليس القانون! ثمة الكثير من الشواهد الغنائية التي تخدم هذه الفكرة، المؤسف أن وادي الفرات وهو في الألفية الثالثة ما زالت الناس على جانبيه تفتقد الأمان الذي توفره دولة الحق والقانون إن وجدت!

أمّا القضية الثانية فهي تمثل الكرم، وتؤكد عليه من خلال ذكر الطعام (هلي ما غدّو الضيف بغداهم/ ولا مطرودهم منهم غداهم/ هلي وگادت   الچول بغداهم/ هلي يا اهل المضايف والدلال). ومئات من عتابات عبد الله الفاضل وغيره تتحدث عن كرم الطعام.

لهاتين القضيتين (القوة والكرم) تجليات كثيرة في الغناء الشعبي، قضية القوة كما أسلفنا تحيلنا إلى غياب دولة الحق والقانون، فالانقطاعات الحضارية التي عاشها الوطن العربي منذ التتر والمغول مرورا بالفترة العثمانية وما تلاها، الاستعمار الإنكليزي والفرنسي، وطبيعة الدولة التي أرسوا دعائمها قبل رحيلهم، والتي استمرت إلى الأن جعل الناس تلتفت إلى أواصر القربى لحماية أنفسهم، وتحصيل حقوقهم. لذلك كانت العشيرة والقبيلة حاضرة في أغانيهم، فهي مصدر فخرهم وقوتهم.

ثم إن حياة الناس في وادي الفرات لم تدخل عليها التنمية، والرفاهية، هذا قديما، أما حديثا فقد أصبحت أسوأ، وذات مشاكل مترابطة ومتداخلة، لذلك سيبقى الغناء حاملا موضوعيا، من حيث أن الأغنية هي نتاج الوجدان الجماعي للجماعة أو الأمة. وهي القادرة على الحفاظ على نظام القيم وترسيخه، إضافة لوظيفتها الجمالية فالحياة كما يقول فولتير: سفينة محطمة لكن علينا أن لا ننسى أبدا لذة الغناء في قوارب النجاة. فالغناء فضيلة تعذر على المنطق اظهارها ولم يتعذر على النفس إخراجها.