سوريا والعراق ولبنان.. مكامن الوجع وأفق الخلاص

2019.10.31 | 16:51 دمشق

2019-10-29t162637z_1669772561_rc1f19c1b3d0_rtrmadp_3_iraq-protests.jpg
+A
حجم الخط
-A

المقارنة بين الثورات هو سلوك لا يخلو من مجازفة، فضلاً عن كونه ممارسة لا تحكمها معايير علمية دقيقة، باعتبار أن الثورة (أي ثورة) هي حدث تاريخي لا يتماثل مع سواه، أو يطابقه تمام المطابقة، وذلك على خلاف الأحداث الاجتماعية أو العلمية التي يفضي تماثلها إلى نتائج متطابقة. إلّا أن ذلك لا يعني انعدام الصلة والقرائن العامة الناظمة للثورات في التاريخ، فخصوصية أيّ ثورة، لا تسلبها جميع سماتها التي يتداخل بعضها، ويتماثل مع سمات الثورات الأخرى، وما أكثر هذه السمات المشتركة والمتداخلة بين ثورات الربيع العربي.

ما من شكّ، في أن ما يحدث في المنطقة العربية منذ أواخر العام 2010، أي منذ انطلاقة الثورة في تونس وحتى انطلاقتها بلبنان، ليس مجرّد عملية تغيير سياسي في هذا البلد أو ذاك، بل ربما الأرجح هو مرحلة تحوّل تاريخي بدأ يفرض استحقاقه على تلك البلدان، وإن اختلفت بناها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إلّا أن ما يقرّب بينها يبقى هو الأكثر بروزاً، وأعني أنماط أنظمة الحكم السياسية وطبيعة ممارستها للسلطة.

سوريا – العراق – لبنان (مواجع مشتركة)

ما يمكن الوقوف عليه حيال هذه الثورات في البلدان الثلاثة المذكورة، هو شعار – من ضمن شعارات كثيرة متشابهة – ينبئ عن حالة يأس تام من أي محاولة إصلاحية للسلطات الحاكمة، ويؤكّد كذلك على يقين شعوب تلك البلدان بحالة من العقم، لا يمكن معالجتها إلّا باستئصال وتجريف جميع مكامن الداء، ولذلك هتف السوريون: سوريا حرة حرة – بشار يطلع برة، وهتف العراقيون: شلع وقلع، وهتف اللبنانيون: كلن يعني كلن.

إذاً، ثمة شعار (استئصالي) مشترك، يحيل – بداهة – إلى رغبة مشتركة أيضاً في انتزاع وتجريف السلطات القائمة، واستبدالها بسلطات أخرى، وهذا يحيلنا من عنفوان الشعار ونشوة التغني به، إلى مقاربة تداعياته الواقعية من جهة، وكذلك إلى إمكانية توفّر حوامله السياسية من جهة أخرى.

ثمة شعار (استئصالي) مشترك، يحيل – بداهة – إلى رغبة مشتركة أيضاً في انتزاع وتجريف السلطات القائمة، واستبدالها بسلطات أخرى

لا تكمن استحالة الإصلاح السياسي في سوريا برغبة مجانية لدى السوريين في التغيير الجذري، بقدر ما فرضتها بنية نظام الأسد، بل جعلتها خياراً وحيداً، على الرغم مما انطوى عليه هذا الخيار من تضحيات خلال ثماني سنوات مضت، ولعل مقولة أحد الأصدقاء (نظام الأسد كارثة، وزواله لن يكون دون المرور بكارثة)، أصبحت ماثلة في أذهان معظم السوريين الذين يواجهون منذ ما يزيد على أربعة عقود من الزمن، استبداداً مركّباً – سياسياً – طائفياً – أفقد الدولة السورية أي حالة من حالات استقلال مؤسسات الدولة عن السلطة، بل اختزل الدولة في منظومة سلطوية استطاعت امتلاك وتطييف قطاعيْ الجيش والمخابرات، وانتهى هذا التطييف إلى نوع من التجانس العائلي الذي يستوجب بقاؤه واستمراره، فناء الطرف الآخر (الشعب)، وإن تعذّر هذا الفناء، فلا مانع لدى بشار الأسد من استبدال السوريين بغيرهم، ولعل هذا ما عناه بحديثه عن الشعب المتجانس حيناً، وبقوله: الأرض لمن يدافع عنها، حيناً آخر.

إن حتمية زوال أحد الخصمين (السلطة – الشعب) كشرط لاستمرار الآخر في البقاء، هي ذات المواجهة بين العراقيين الذي انتفضوا بحرقة جارحة، وبين سلطة مهّد لها (بول بريمر)، وهندستْها إيران، وأشرفت على  فسادها ووفّرت له كل أشكال المشروعية، المرجعيات الشيعية التي تتخذ من طهران مصدر قرار لها، ويبدو أن الفترة الزمنية الممتدّة من العام 2005 وحتى الوقت الراهن، قد أفقدت (الأكثرية الشيعية) مفعول التخدير الإيديولوجي الذي كانت تضخه إيران عبر العمائم السوداء، وجعل الشعب العراقي يصحو ليرى فداحة الكارثة التي تتمثل في قسم كبير منها بالبؤس الاجتماعي والمعيشي، فضلاً عن هشاشة الجانب الأمني، ولعل الأهم من ذلك كله، هو حالة الاستلاب الوطني التي باتت توجع العراقيين بقسوة واضحة.

ولئن كان الدستور العراقي الذي باركه بريمر عام 2005 لا يبدي صراحةً المحاصصة الطائفية، وإنما تم تطْييفه عبر نفوذ إيران وملحقاتها، فإن اتفاق الطائف الذي تم إقراره في شهر أكتوبر- تشرين أول من العام 1989، والذي ساهم بإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية آنذاك، إلّا أنه لم يكن ليصلح كناظم لدستور عام للبلاد، ذلك أنه من العسير، بل من غير المنطقي أن يتأسس دستور على محاصصة طائفية في بلد كان ينظر إليه الجميع كواحة للثقافة والحريات والتنوير. وهكذا كان الانفجار الشعبي الذي تشهده لبنان الآن ردّاً على حالة العقم السلطوي في الإصلاح، وتجسيداً لرغبة اللبنانيين في بناء الدولة التي توازي تطلعاتهم.

ثمة عدوٌ خارجي مشترك تواجهه الثورات الثلاث في كل من سوريا ولبنان والعراق، ويتمثل في إيران التي لم تخف انحيازها ودعمها المطلق لأنظمة الحكم القائمة في البلدان المذكورة

التحدّي المشترك

ثمة عدوٌ خارجي مشترك تواجهه الثورات الثلاث في كل من سوريا ولبنان والعراق، ويتمثل في إيران التي لم تخف انحيازها ودعمها المطلق لأنظمة الحكم القائمة في البلدان المذكورة، كما لم تخف عداءها، وبحالة الإطلاق ذاتها، للحراك الشعبي المناهض للسلطات القائمة، ولعلّ خطورة الموقف الإيراني لا تكمن في كونها تجسيداً لوجهة نظر نابعة من مجرّد مصالح طارئة، بل إن فداحة هذه الخطورة إنما تتمثّل في كون الأنظمة الحاكمة في كل من سوريا والعراق ولبنان، هي ركائز أساسية لامتداد المشروع الإيراني الذي جاء به الخميني عام 1979، وسعى إلى إيجاد مجال حيوي لهذا المشروع في المحيط الإقليمي، عبر ارتباط إيران (العضوي) بنظام حافظ الأسد، وكذلك من خلال نجاح إيران في إيجاد حزب الله في لبنان عام 1982، على إثر خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، أمّا في العراق فقد واجه مشروع الخميني مقاومة عراقية استمرّت ثماني سنوات، اضطرت إيران في نهايتها إلى القبول بقرار وقف الحرب عام 1988، ولكن القبول بوقف الحرب آنذاك، وتجرّع الخميني لـ (كأس السم) بحسب تعبيره، لم يكن سوى عملية تعليق لحلم، ظل خامداً طوال خمس عشرة سنة، إلى أن وفّرت له الولايات المتحدة الأمريكية فرصة الانتعاش عام 2003 ، فانتفض ليعاود تمدده في العراق، من خلال حوامله الطائفية التي تتجسّد في الحكومات المتعاقبة في العراق واستطالاتها الميليشيوية الحالية.

ما من شك، في أن ثمة تحدّيين محوريين ينظمان عقد الثورات الثلاث، يتمثل الأول في أن خيار التغيير الجذري في كل من سوريا ولعراق ولبنان، بات الفرصة الوحيدة لتحرّر تلك الشعوب من عبوديتها، واستردادها لحقوقها المغتصبة، ومن ثم شروعها في بناء مستقبلها الذي يوازي تطلعاتها، ويتجلّى الثاني في التحدّي المشترك لتطلعات تلك الشعوب، وأعني المشروع الإيراني الذي يرى في التصدّي لتلك الثورات ضرورة موجبة لحيوية سيرورته وبقائه.

إنّ الشروع المشترك لمواجهة هذين التحدّيين الكبيرين، هو الوعي الثوري الصحيح لهما بالدرجة الأولى، وسواءٌ أكانت مقوّمات المواجهة لدى الشعوب الثائرة توازي في الوقت الراهن وعيها الثوري أم لا، فإن العمل على تأسيس هذه المقوّمات هو الأمر الذي لا بدّ منه.