سوريا في مرمى "دبلوماسية فخ الدَّين الصيني"

2023.10.04 | 05:41 دمشق

سوريا في مرمى "دبلوماسية فخ الدَّين الصيني"
+A
حجم الخط
-A

ربما من المبكر جداً، الجزم بأن الصين حسمت أمرها للاستثمار في سوريا، في ضوء زيارة رأس النظام وعائلته الأخيرة إلى هناك. لكن التقليل من تلك الاحتمالية، بناء على جملة من الافتراضات، الدقيقة في بعضها، وغير الدقيقة في بعضها الآخر، قد لا يمثّل قراءة موضوعية لأفق العلاقة بين الصين ونظام الأسد، استناداً إلى تجارب صينية مع دول وأنظمة حكم مشابهة.

وفيما يستند بالتقليل من احتمالية انخراط الصين في استثمارات ضخمة بسوريا، إلى افتراضات يصعب تجاهلها، مثل أثر سيف العقوبات الأميركية المُسلّط، وغموض الصورة حول مدى استعداد الصين لتحديه، في ضوء الصراع الدبلوماسي والاستراتيجي المتصاعد بين بكين وواشنطن في السنوات الأخيرة، ناهيك عن عدم الاستقرار السياسي والأمني في سوريا، الذي يزيد من منسوب المغامرة لأي استثمار صيني في هذا البلد، في الوقت نفسه، فإن افتراضات أخرى تبدو غير محدّثة، ولا تستند إلى تجارب قريبة للانخراط الصيني مع دولٍ تعاني من مشكلات شبيهة، في بعض جوانبها، بالمشكلات التي تعانيها سوريا.

أبرز النماذج التي يمكن مقاربتها، هي تلك التي في العراق. فذاك البلد حصد استثمارات صينية وصلت إلى 20 مليار دولار، وحصل على قروض بـ 10 مليارات دولار، رغم أنه يعني من عدم استقرار سياسي، وتهديد متكرر بالفوضى الأمنية، ومعدلات فساد مرتفعة، ونفوذ هائل لإيران، وأقل منه، لكنه جلّي، للولايات المتحدة الأميركية. ورغم أن الهشاشة الأمنية والسياسية في سوريا، أعلى منها في العراق، إلا أن الانخراط الاستثماري الصيني في البلد الجار لسوريا، يشي بأمرين، الأول أن بكين أصبحت أكثر ميلاً للمغامرة على صعيد استثماراتها الخارجية، أما الأمر الثاني، فهو انسجام المجازفة الصينية في العراق مع النفوذ الإيراني الكثيف فيه. وهو أمر وارد تكراره في سوريا.

النموذج الثاني المثير للاهتمام على هذا الصعيد، هو تجربة سريلانكا. ذاك البلد الذي شهد احتجاجات واسعة ضد حكم عائلة رجاباكسا، أدت إلى فرار الرئيس وبعض أفراد أسرته، قبل نحو عام، كنتيجة لأزمة ديون قاسية. ويتم، على نطاق واسع، تحميل الصينيين، مسؤولية أزمة الديون التي عصفت بالبلد وباستقراره السياسي والاجتماعي أيضاً.

تصادف هذا العام، الذكرى العاشرة لإطلاق مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، يمكن رصد عدد كبير من المؤشرات على إخفاقات مشروعات البنية التحتية التي مولتها المبادرة، والتي ورّطت عدداً كبيراً من الدول في "فخ الدَّين" الصيني

اللافت في هذا النموذج، أن الصين بدأت تنخرط استثمارياً في سريلانكا، خلال الولاية الثانية لحكم الرئيس السابق، ماهيندا رجاباكسا، الذي حكم بين عامي (2005 – 2015). وبدأ الانخراط الصيني هذا، تحديداً، بعيد تمكن ماهيندا من إنهاء حرب أهلية مع الانفصاليين التاميل، دامت ما يقرب من 30 عاماً. وكانت الخاتمة لتلك الحرب الأهلية الطويلة، دموية ومُرفقة بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، والانتهاكات ضد الأقليات العرقية والدَّينية، ناهيك عن تهم الفساد الواسعة ضد الرئيس وضد أسرته، التي انخرط عدد كبير من أفرادها في المناصب الحكومية. وقد تسببت سياسة هذه الأسرة في الاستدانة، والتورط فيما بات يُعرف بـ "فخ الدَّين الصيني"، في دفع البلاد إلى أتون أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها، منذ استقلالها، عام 1948.

وفيما تصادف هذا العام، الذكرى العاشرة لإطلاق مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، يمكن رصد عدد كبير من المؤشرات على إخفاقات مشروعات البنية التحتية التي مولتها المبادرة، والتي ورّطت عدداً كبيراً من الدول في "فخ الدَّين" الصيني، من بينها، إلى جانب سريلانكا، الأرجنتين وكينيا وماليزيا وباكستان وتنزانيا، ودول أخرى.

ومن أبرز ما ميّز "دبلوماسية فخ الدَّين الصيني"، ذاك الجانب الخفي من الديون التي يتم عقد اتفاقات سرّية حولها، بين حكومات دول فاسدة وديكتاتورية، وبين بنوك حكومية صينية، بصورة تفتقد إلى الشفافية. وهي قصّة مرشحة للتكرار في الحالة السورية، إن قدّمت الصين بالفعل، قروضاً للنظام. فالأخير سبق أن تورّط في ديون سرّية لصالح إيران، تصل إلى 50 مليار دولار، وفق ما كشفت وثائق سرّبتها المعارضة الإيرانية خلال العام الجاري.

وكما لفتنا في الحالة العراقية، تشير دراسة أعدها باحثون في البنك الدولي وجامعة هارفرد ومعهد كيل للاقتصاد العالمي، خلال العام الجاري، إلى أن الصين تحاول إنقاذ بنوكها، لذا تدخل في أعمال محفوفة بالمخاطر، متمثلة في قروض إنقاذ مالي لدول متعثرة اقتصادياً. ووفق الدراسة، فإن قروض الصين للدول التي تعاني من مشكلات مع الديون، ارتفعت من أقل من 5% من محفظة إقراضها الخارجية عام 2010، إلى 60% في العام 2020. وهو أمر لا يُبشر بالخير، في حالتنا نحن، بسوريا، وفي ظل ما نعانيه من مشكلات في سداد الديون الإيرانية الضخمة.

بطبيعة الحال، قد نجد الكثير من الكتابات الموالية لإيران والنظام وروسيا والصين، تقول إن مصطلح "فخ الدَّين الصيني"، صناعة غربية، وأنه يمثّل دعاية مناوئة للصين وللدول القريبة منها، وأن لا أدلة تدعم موضوعية هذا التوصيف. لكن إن أردنا البحث في مصادر أكثر حيادية، قد نجد دراسة لافتة لمركز الإمارات للسياسات، نُشرت قبل نحو عام، تناقش مدى مسؤولية الديون الصينية عن الانهيار الذي شهدته سريلانكا، كمثال. وكما نعلم، فإن الإمارات تنهج منذ عدة سنوات نهجاً يستهدف تحقيق التوازن بين التحالف مع الغرب وبين التقارب مع القوى الدولية الصاعدة، كالصين. وهي تنسج صلات وطيدة مع بكين، وكذلك مع موسكو. مما يجعلها طرفاً أقرب للحيادية، منها إلى البروباغندا الغربية. تقول الدراسة التي عُنونت بـ "الصين وانهيار اقتصاد سريلانكا: الإخفاقات والتحديات المستقبلية"، إن الصين تمكنت من إقناع حكومة سريلانكا (السابقة) بعدم اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للاستدانة عبر توفير حزم التمويل المطلوبة بشروط لا تشمل إصلاحات هيكلية أو زيادة معدلات الضرائب أو الشفافية، بغية تحقيق الفائدة للبنوك الحكومية الصينية عبر معدلات أسعار الفائدة المرتفعة، وفترات السداد القصيرة.

وقارنت الدراسة بين شروط مديونية سريلانكا لليابان، وشروط مديونيتها للصين. إذ يتقارب حجم الدَّين السريلانكي لكل من البلدين، لكنه يختلف، من حيث الشروط، فأسعار الفائدة على الديون اليابانية بقي عند مستوى 0.7% لفترات سداد تصل إلى 34 عاماً. فيما كان متوسط سعر الفائدة على الديون الصينية 3.3% وبفترة سداد تصل إلى 18 عاماً فقط.

لا يبدو الاستقبال الصيني الحافل للأسد وعقيلته، وجولات اللقاءات بينه وبين مسؤولين حكوميين، بعضهم معنيون بالشأن الاقتصادي، مبشرةً بالخير. إذ تبدو مقدمة لدراسة جدية من جانب الصين لإمكانية الانخراط في المشهد السوري

كما تشير الدراسة إلى الفارق في الأثر التنموي بين قروض الدول والمؤسسات الغربية التي توجه 55% من قروضها للدول النامية إلى الاستثمار في التعليم والصحة وبرامج الحماية الاجتماعية، وبين الأثر التنموي للقروض الصينية التي تخصص أكثر من 60% منها لتمويل مشاريع بنية تحتية، منخفضة العوائد، تتحول في معظم الحالات إلى عبء على الدول المستدينة التي تعجز عن إنتاج أرباح كافية لسداد قيمة القروض.

وتتضح النتائج اليوم في سريلانكا، التي عجزت عن جدولة الديون بطريقة لا تنعكس تقشفاً قاسياً على الشعب الذي انحدر أكثر من أربعة ملايين منه تحت خط الفقر منذ بدء الأزمة.

في ضوء ما سبق، لا يبدو الاستقبال الصيني الحافل للأسد وعقيلته، وجولات اللقاءات بينه وبين مسؤولين حكوميين، بعضهم معنيون بالشأن الاقتصادي، مبشرةً بالخير. إذ تبدو مقدمة لدراسة جدية من جانب الصين لإمكانية الانخراط في المشهد السوري، استثمارياً. وفيما يعجز الأسد عن سداد الدَّين الإيراني، الذي رهن من أجله جانباً كبيراً من موارد البلاد المتاحة بين يديه، يبدو أن مسار قروض جديدة من الصين، يعني خدمةً للدَّين الإيراني، على حساب مستقبل السوريين وما بقي من مواردهم ومصادر رزقهم.