سوداوية المشهد العربي والمستقبل الغامض

2024.04.28 | 06:04 دمشق

آخر تحديث: 28.04.2024 | 06:04 دمشق

              سوداوية المشهد العربي والمستقبل الغامض
+A
حجم الخط
-A

يعيش العرب أسوأ أوضاعهم الجيوسياسية والاقتصادية والتنموية والاجتماعية ومعها الأمنية، ما خلا بعض البلدان النفطية التي لم تمْسَسها لوثة الحروب والتقسيم والانفلات والتشظِّي، العامودي الفئوي والطائفي_المذهبي، الذي قسَّم المجتمعات العربية عامودياً وأحدث استقطاباً سياسياً حاداً، أدَّى الى فرْط الدولة الوطنية التي بُنيت بالأساس على قاعدة المواجهة للمستعمرين الغربيين وإسرائيل، ولذلك يعيش النظام الإقليمي والعربي بالتحديد اليوم لحظة مفصليّة تاريخية، فإسرائيل وإيران تستعرضان القوة على صفيح المنطقة الساخن، وتستخدمان كل ما لديهما من أوراق قوّة حقيقية بفعّالية كبيرة، تمهيداً للدخول في عملية قطف ثمار التسويات الكبرى الحاصلة، والتي يجري التفاوض عليها بالنار، في الظلّ وفي العلن، لرسم حدود النفوذ والتوسّع لكل طرف، وهذا لن يكون إلّا على حساب العرب كمكوِّن رئيسي للجغرافيا الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط.

تآكل نظم الممانعة

فلبنان تتناهشه قطعان الميليشيات الطائفية والأحزاب الحاكمة، حيث الدولة بلا رأس، في ظل انعدام التوازن الوطني لصالح الفئويات المذهبية، والبلاد تعج بعصابات التهريب عبر الحدود المفتوحة، والسرقات والتفلُّت الأمني والتسيُّب الاجتماعي يتوسَّع من دون حسيب ولا رقيب، وهذا مرسوم له سلفاً ضمن خطة موضوعة، كساحة نفوذ لأدوار إقليمية مكمِّلة في طرح موازين القوى للدول النافذة ومنها إيران، فلبنان يشكِل مع الصومال أنموذجين عالميَّين للدراسة والبحث عن أسباب فشل الدول واندثارها، وإظهار قدرة أمراء الطوائف والمذاهب وميليشياتهم المسلّحة، على تفكيك بنى الدولة وتدمير هياكلها ومؤسساتها، وتحويل الوطن سلعة رخيصة للبيع، في بازارات السياسات الإقليمية وأسواق الرهانات الدولية.

وسوريا التي كانت لاعباً إقليمياً، صارت كذلك ملعباً تتناتش أرضه الميليشيات والفصائل والجيوش  المحتلّة، والعصابات والتنظيمات الآتية من كلّ ناحية وصوب، وصارت دولة مريضة يأكلها الاهتراء والانهيار، وغابت فلسطين وما يجري في غزة عن أدبيات نظامها المتآكل، خطاب العروبة في أشدّ اللحظات سوداوية، في حين اللاجئون السوريون تتلاطمهم أمواج ورياح العنصرية والمكائد السياسية التي تسبَّب بها النظام الحاكم على مدى عقود خلت. أما العراق، فهو أغنى دولة مشرقية وأكثرها قدرات اقتصادية، صار مقاطعات ومدنا ممزّقة، تعيش فيه الميليشيات فساداً وخراباً، بعد أن تركه الغزو الأميركي جثة هامدة، وزاد من وتيرة خرابه عبَث جيرانه الطامعين، بعد أن تمكَّنت إيران من أن تصول وتجول فيه، لنهب إرثه التاريخي الكبير وكانت فعلتها قبل مع سوريا.

أما السودان فقد سرق العسكر ثورة شبابه وناسه المثقفين، وحوّلوه متاريس ومواجهات حربية بين القادة العسكريين، تُخْتَبر فيها كلّ أنواع الإبادات والاغتصاب والمجاعة، في حين ليبيا لا تزال غارقة في حربها الأهليّة، حيث كلما لاحت فرصة الخروج بحلول سياسية وفرصة للتسوية، عادت البلد إلى مربّعها  الأول.

غزة واختبار الصبر الاستراتيجي

إنها قتامة المشهد وضبابيته، التي حلَّت عليه، وفيه نكبة غزة، بعد أن غاب العرب عنها وعن قضيتها، وهو ما شجَّع إسرائيل على ارتكاب أفظع الجرائم بلا حسيب ولا رقيب، على الرغم من إطالة أمد هذه الحرب بفضل المقاومة التي لم تعطِ حتى الآن أي نصر لنتنياهو، يُعيد فيها الهيبة المكسورة للجيش الإسرائيلي، ويمنحه الأمل في الابتعاد عن الدخول خلف قضبان السجن، ولذلك هو لا يزال يبحث عن مخارج لإطالة عمْر الحرب، أو توسُّعها لجرِّ المنطقة والدول الكبرى، كي تُعاد فيها خلط الأوراق، حيث وجد ضالته مع طهران التي استفزَّه صبرها الاستراتيجي الدائم، علَّه يزجُّ بواشنطن في أتون نار حرب كبرى، في ظل الوضع العربي المأزوم، الموضوع في عين العاصفة، وهو أمر لا يحتاج إلى دلائل وإثباتات، حيث بات تغيير قواعد الاشتباك بين القوّتين الإقليميّتين الإيرانية والإسرائيلية ضرورة، بغضّ النظر عن المآلات والنتائج والمسارات المقبلة.

لعبة التنافس الإقليمي

فهناك من يسعى إلى إفراغ حرب غزة من مضمونها الاستراتيجي، وبُعْدِها المقاوِم للشعب الفلسطيني، واعتبارها هجمة إسرائيلية همجيّة، وتحويلها إلى عامل مساعد في اللُّعبة الاستراتيجية الكبرى في المنطقة، وستعمد كلّ من طهران وتل أبيب، إلى جعلها محطّة فاصلة في لعبة التنافس الإقليمي، وفرصة لتعزيز أوراق القوّة أو الإمساك بأوراق جديدة، وهذا من شأنه أن يزيد الوضع الاستراتيجي حرجاً إضافياً للدول العربية، وأن يتعقّد معه المشهد المأزوم أصلاً لهذه الدول، وخصوصاً الدول الواقعة على خط تقاطع النيران بين إيران وإسرائيل، فالخشية أن تتحوّل هذه الدول إلى ساحات خلفيّة لحرب لم تشارك في اتّخاذ قرارها، ولا علاقة لها بها أصلاً، الأمر الذي قد يكشفها أمام القوّة الأمنيّة الإيرانية وأمام شعوبها المخدرة.

العرب اليوم، مطالبون بالبحث عن مقاربات جديدة لسياسات وتحوّلات كبيرة تجري لرسم مستقبل المنطقة والشعوب فيها، من دون الركون والاستكانة إلى الوعود الأميركية الفارغة

الفراغ العربي

إسرائيل كيان محتلّ، لا يستطيع الانخراط في النسيج الاجتماعي والاقتصادي لدول المنطقة العربية، لأن له وظيفة إمبريالية وعسكرية في خدمة الاستعمار الغربي الجديد، ولم تُظهر تل أبيب إلى اليوم سوى الوجه الإجرامي ضدّ الإنسانية وعدم الاعتراف بأيّ اتفاقات سلام، لكنّ المهم هو أن ما خرَّب الأرض العربية وساحاتها، وجعلها مرتعاً للاعبين الإيرانيين والإسرائيليين على حد سواء، هو هذا الفراغ العربي القاتل، وتخلّي النظام الرسمي العربي عن أوراق قوّته، بدل أن تُبقي هذه الأنظمة أوراق القوة في جعبتها لقلب المعادلات وتصحيح التوازن الاسترايجي، والعودة لحجز مكانة عربية في النظام الإقليمي والدولي، وعلى الخريطة الجيوسياسية العالمية، فلا زال التفريط بعناصر القوة هو سِمة هذه النظم وعمل حكامها، علماً أنه يوم البدء في حرب غزة، كان من الضرورة على دول المنطقة البحث وتنسيق مواقفها وتحصين مواقعها من قبل، مع ما يتلاءم وخريطة النفوذ المتحرّكة سريعاً.

أميركا: لا ثقة

فالعرب اليوم، مطالبون بالبحث عن مقاربات جديدة لسياسات وتحوّلات كبيرة تجري لرسم مستقبل المنطقة والشعوب فيها، من دون الركون والاستكانة إلى الوعود الأميركية الفارغة، لهذا فإنّ الولايات المتحدة الأميركية الآن في موقف صعب، فحتى قطر بردت العلاقة معها، لأنها خيبت آمالها بحسب مسؤولي الدوحة، لأنّها ما عادت تطرح في مفاوضات الهدنة غير وُجهة النظر الإسرائيلية بحسب رأيهم، وأمسى لإيران مكانة عليها، بعدما أعلمتها بالضربة مسبقاً لتل أبيب، ثمّ هي لم تردّ على الردّ الإسرائيلي.

اليوم، الولايات المتحدة تتقدّم وتقود المبادرات، لكنّها ما عادت تملك قدرة تغيير الواقع، في حين العرب المطلوب تدخّلهم ينتظرون أفكاراً أميركيةً جديدةً لتحقيق الهدنة، وكلّ العالم وقف في مجلس الأمن مع الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إلّا الولايات المتحدة التي استخدمت الفيتو لإسقاط مشروع القرار، وهكذا أصبحت واشنطن في نظر مختلف الأطراف صديقا، لكنّه غير موثوق به، فهي ما زالت تدعم إسرائيل حتى اللحظة، وترفض الحد الأدنى لقيام دولة فلسطين في الأمم المتحدة، وهنا يتوجب على العرب في لحظة تقاطع دولي_إقليمي، ضرورة العمل والاعتماد على قوتهم الذاتية لصنع معادلة الردع العربية الاستراتيجية، بدل استغلالها في بازارات المتاجرة الإقليمية لتحقيق مصالح ومطامع الدول الكبرى.