سليماني.. صناعة الأسطورة وتقوضها فوق الركام العربي

2020.01.08 | 17:22 دمشق

142171-1923881183.jpg
+A
حجم الخط
-A

يجيد الإيرانيون صناعة الأساطير. ويشارك الأميركيون في إضفاء النزعة الهوليودية على الشخصيات الأسطورية التي تناصبهم العداء. كان قاسم سليماني هو الأسطورة بحدّ ذاته، بما جرى تقديمه، كممسك في ملفات الدول العربية، أو باسط نفوذ إيران في الخارج وفق مبدأ تصدير الثورة. صنعت أسطورة سليماني في حياته، وليس ككل القادة العسكريين الذين درجت العادة التاريخية على التحدث عن مزاياهم وقوتهم ما بعد رحيلهم. وهنا تكمن حقيقة اللعبة الإيرانية. وتقابلها المساعدة الأميركية في صناعة هذه الأساطير. فيما نهاية المعادلة أو خلاصتها، تقدّم واشنطن نفسها كبطلة أنقذت العالم من شرور هذه الشخصيات، فيما تستمر إيران بلعب دور الضحية لتحقيق أهداف سياسية.

أسطورة قاسم سليماني على خطورتها، لم تكن فقط منحصرة بشخصه. بل في الصورة التي قدّمت عنه إلى بعض السوريين، اللبنانيين، والعراقيين. وليس فقط من أبناء التوجه المذهبي الواحد. هو التكريس الواحد الأحد لمبدأ الذمّية السياسية والأمنية والاجتماعية. التي تتجسد في ردود أفعال "المسيحيين" مثلاً على اغتيال سليماني، والذين يعتبرون أن من قتل هو حامي وجودهم ومناطقهم، من "المد" الإسلامي، وهذا ما يتجلى في مواقف كثيرة لسوريين ولبنانيين. في إطار اللعب على الرمزية المعنوية والعاطفية لهؤلاء، بعيداً عن الحسابات السياسية الباردة التي تنتهجها إيران في الاستثمار بالدماء أو بالمعارك.

سيكون اغتيال قاسم سليماني، عنواناً لمرحلة آفلة، وافتتاحاً لمرحلة جديدة، وفق إعادة رسم خرائط مناطق النفوذ في المنطقة

سيكون اغتيال قاسم سليماني، عنواناً لمرحلة آفلة، وافتتاحاً لمرحلة جديدة، وفق إعادة رسم خرائط مناطق النفوذ في المنطقة. عملية الاغتيال برمزيتها ربطاً بخط تنقّل الرجل في رحلته الأخيرة، تكاد تختصر ذلك، فهو الذي وصل العراق قادماً من سوريا التي انتقل إليها من لبنان. ساحات صولاته وجولاته، اختتم فيها مسيرته وحياته. وعادة عند اغتيال هكذا أشخاص، يشكلون رمزيات لمراحل وحقبات، تعني أن ثمة أدواراً تتبدّل وأولويات تتغيّر. إذ قبل الاغتيال بيومين كان الرئيس الإيراني حسن روحاني يشير إلى الاستعداد الإيراني للتفاوض مع الأميركيين بعد تخفيف الضغوط، وبعد العملية خرج الرئيس الاميركي معلناً أن إيران لم تربح أي حرب عسكرية عبر تاريخها لكنها تربح في المفاوضات.

سليماني كان أحد أبرز معرقلي هذه المفاوضات، باعتباره أكثر المتشددين والحريصين على لعبته الأسطورية في السطوة المطلقة داخل إيران وخارجها حيث ساحات النزاع والتقاسم. باغتياله ستستثمر بما تعتبره مظلوميتها إلى أقصى الحدود. وواشنطن ستكون قد أزاحت حجر العثرة من طريق المفاوضات الأميركية الإيرانية، لإعادة رسم خرائط النفوذ. وليس تفصيلاً أن تخرج الدول الخليجية الحليفة لواشنطن والتي تعادي إيران بتوجيه الدعوات إلى التهدئة وعدم التصعيد. هذا مؤشر إلى عدم الذهاب نحو حرب، لأن مراحل الحروب قد انتهت هنا، أدى قاسم سليماني مهمته في تمزيق الدول العربية وتشتيت مجتمعاتها، الجميع يستعجل حالياً مراحل القطاف. سيرتاح من يقدمون أنفسهم كإصلاحيين في إيران، وعلى رأسهم حسن روحاني ومحمد جواد ظريف. وبعيداً عن كل الخطاب التصعيدي، والتوعد بالردّ القاسي، هم يعلمون أن هناك مرحلة طويت، ولا بد من الدخول في مرحلة جديدة.

سارع بشار الأسد إلى التعزية بسليماني، قائلاً إن سوريا لن تنسى وقفته إلى جانبها، الجملة وحدها كفيلة بافتضاح بعد اختلاجات بشار الأسد، الذي حكماً سيبحث عن الاستفادة مما جرى في أكثر من مجال، وخصوصاً في محاولاته المستمرة لإعادة تعويم نفسه عربياً وخصوصاً خليجياً، لا سيما إذا ما صدقت المعلومات التي تتحدث عن أن الإفشاء عن خط سير توجه سليماني وتوقيت انطلاق الطائرة من مطار دمشق إلى بغداد، وأن الأسد قد باعها لصالح عائدات سياسية أخرى. بلا شك أن اغتيال سليماني سيؤثر على الساحة السورية بشكل جذري، فهو مهندس المعارك فيها وحائك الجغرافية العسكرية للقوات الإيرانية وحلفائها هناك.

تلك الأسطورة، التي صنعت بإهدار الدماء وتهجير مئات الآلاف، كانت جزءاً من صناعة أوهام وأساطير أخرى، ترتكز على الخلو من المضمون لحساب الدعاية

جهات عديدة ستستفيد من اغتيال سليماني، النظام السوري، روسيا، جزء أساسي من النظام الإيراني، وسيكون اغتياله فاتحة لمرحلة سياسية جديدة في منطقة الشرق الأوسط تقوم على تحجيم الدور الإيراني عسكرياً، مقابل إطلاق المفاوضات السياسية لترسيم مناطق النفوذ. وهذا يعني أن اغتيال سليماني يأتي بعد انتهاء مهمته، العسكرية، لصالح تقدّم الخيارات السياسية.

وتلك الأسطورة، التي صنعت بإهدار الدماء وتهجير مئات الآلاف، كانت جزءاً من صناعة أوهام وأساطير أخرى، ترتكز على الخلو من المضمون لحساب الدعاية وأسست لمدارس جديدة من مسارات التردي في الممارسات السياسية، وقد سيطرت على المشهد العربي منذ عقود، تدّعي مقاومة إسرائيل ومواجهتها، فيما لم تقدم على غير ما يفيد إسرائيل، إما بتمزيق الدول العربية، والقضاء على تنوعاتها، أو بإيقاظ شياطين الشرذمة المذهبية والطائفية وإعادة الاعتبار إلى نزعة حلف الأقليات، الذي بدأ التمهيد لإعادة إطلاقه بضرب الثورة السورية التي تولاها سليماني، وأرساها، عسكرياً، فيما موعد القطاف السياسي يحتّم إنهاء الأسطورة لصالح أسطورة جديدة.

كلمات مفتاحية