سقوط آخر دعائم الاستقرار.. ولبنان متروك على رصيف الانتظار

2023.07.24 | 06:32 دمشق

آخر تحديث: 24.07.2023 | 06:32 دمشق

الشغور الرئاسي
+A
حجم الخط
-A

سقوط آخر دعائم الاستقرار... ولبنان متروك على رصيف الانتظار 

تعقدت التسوية المبرمة أو الاتفاق السعودي الإيراني وشروط تنفيذها، بسبب تزاحم الملفات والأوراق التي تحوز عليها طهران في المنطقة، والتي صارت تشكل عبئاً إضافياً تريد التخلص منها، بعد أن توسَّع تمددها إثر الحرب الروسية الأوكرانية وانشغال موسكو عن سوريا، وهو ما زاد من حدة توتُّر الموقف الأميركي الذي كثَّف من حضوره العسكري في سوريا، في محاولة لفصل الملفات عن بعضها البعض، وخصوصاً ما يتعلق منها بإيران، كالملف السوري والعراقي واللبناني، ولهذا صار المِلف الرئاسي اللُّبناني يدور في حلقة مفرغة، بانتظار تبلور المواقف الإقليمية حيث يمتلك كل طرف ما يعزز من موقفه التفاوضي حتى لو كان على حساب سيادة الدولة وأمن المواطن وحفظ كرامته.

فهذا حال مِلف النازحين السوريين في لبنان ودول الجوار، الذي يعتبره النظام في دمشق ورقة رابحة بعد ورقة الكبتاغون في الضغط على أوروبا ولبنان، لتأمين شروط تسوية جديدة تتيح عودة النظام السوري للإمساك بملفات كان فقد فقدها إلى الأبد. خصوصاً بعد القرار الأوروبي المتعلق بتوطن النازحين في لبنان، وما أثاره من لغطٍ وضجة داخلية وخارجية، حيث ترغب أوروبا بفعل أي شيء شريطة أن لا يعْبُر هؤلاء البحر باتجاها كلاجئين أو مهاجرين.. فالقضية مربحة بوجهيها لكلا الطرفين الأوروبي وللنظام في سوريا.

ولبنان المتروك على خط الانتظار لتبلور تحرك خارجي، يضغط لتحقيق خرق للوصول إلى تسوية بعد أن أُقْفلت كل الحلول الرئاسية، وله موعد مع الموفد الفرنسي جان إيف لودريان والمشاورات التي يجريها مع السعوديين والقطريين، حيث ثمة قناعة صارت راسخة بأنه من المبكر الحديث عن ولادة صيغة للحل، وتجهد فصائل وميليشيات إيران في لبنان بالقيام بمناورات على الحدود مع إسرائيل ونصب الخيم استكمالاً لضم ما تبقَّى من البر بعد أن سلمتها السلطة كل مقدرات وثروات البحر عبر خط كاريش النفطي. إذ أنَّ الصورة الذهبية التي انطلقت من الاتفاق السعودي الإيراني، شابتها الكثير من العراقيل من دون أن تنسف هذه المصالحة، لكنها حتماً ملفات صعبة ومعقَّدة وفيها الكثير من المصالح المتضاربة، فبدا واضحاً أن إيران لن تعطي السعودية تنازلات في العمق بل ستكتفي بتقديم تنازلات شكلية، وهي تراهن على تعب الرياض بعد أن أبرزت طهران مشكلات إضافية كحقل "الدرة" النفطي الذي تتقاسمه السعودية والكويت، وهو ما أدى إلى ظهور خلافات بين إيران من جهة والسعودية والكويت من جهة أخرى.

وتركيا بدأت برسم خطوط تحالفاتها الجديدة بعدما تحصَّن الرئيس أردوغان بربحه في الانتخابات الأخيرة، والقيام بوضع برامج زيارات له للسعودية والإمارات وقطر واستعادة دفء العلاقات مع مصر، حيث تبدو الحاجة التركية ملحَّة لضخِ السيولة في شرايين الاقتصاد التركي، الذي يعاني صعوبات جمَة، وكذلك لمحاولة تقديم أنقرة نفسها كضامنة ولديها القدرة على تأمين المصالح الخليجية، وبناء سياسة توازن مع إيران في المنطقة خصوصاً على الساحة السورية والعراقية، وبالوقت نفسه يتم تسليف الأميركي ورقة قدرة أردوغان لناحية التزامه المهمات الصعبة، ومنها ما يتعلق بالرؤية الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط، مقابل دور إقليمي واسع.

أما إيران التي عادة ما تنسج خيوط لعبتها بتأنٍّ وإتقان، لجهة اتخاذ قراراتها ورسم تحركاتها، فهي تخوض معركة اتفاق جديدة لتحقيق مكاسب تعتبر واشنطن أنها في وضع قادر على القبول بشروطها حول الملف النووي، بما يطول في بعض جوانبه النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، لا سيَّما في اليمن والعراق وسوريا واستطراداً لبنان. ولهذا تعرف طهران أنها حقَّقت ربحية عالية من واردات نفطها عبر السوق السوداء، بعد أن غضَّت واشنطن الطرف عن ذلك، كونه سيؤدي الى خفض أسعار النفط العالمية في مرحلة التحضير للانتخابات الأميركية. حيث بلغت شحنات النفط الإيرانية أكثر من مليون ونصف المليون برميل يومياً في شهرَي أيار وحزيران الماضيين. وهو ما يقوّض مساعي السعودية وكبار المنتجين في أوبك لإبقاء الأسعار مرتفعة عبر خفض إنِتاجهم، وهي خطوة ستفيد إدارة بايدن انتخابياً، وإيران مالياً وكذلك الصين.

فالخطوط الخلفية مفتوحة بين واشنطن وطهران، والواضح أن الطرفين ما زالا في مرحلة التفاوض الشائك قبل التوصل للاتفاق الموعود، وفي ضغط واستخدام للأوراق الساخنة أحياناً كثيرة، كالتحرش الإيراني بناقلات النفط في البحر، والرسائل النارية في جنوب لبنان، من دون أن يعني ذلك أن الطرفين ذاهبان إلى الصدام.

فهذه البعثرة في الأوراق التفاوضية وأولوياتها، أجَّلت مِلَف الحل في لبنان لبعض الوقت، خاصة ما يتعلق منه بالملف الرئاسي والإصلاحات، وملف النزوح السوري وعودتهم. ووفق كل ما سبق يمكن الاستنتاج بأن لبنان ليس متروكاً بالكامل، لكنه على رف الانتظار لتحين ساعة التوقيت المناسب، مع النظر إلى ضرورة التنبه من الأخطار المحدقة التي تتربَّص بهذا البلد الواقع تحت رهينة الأحزاب الحاكمة وميليشياتها، بعد أن دمرت مؤسساته وقواه الأمنية وحركة مصارفه المالية.

فإذا استمر الفراغ أو الشغور الرئاسي، سيكون هناك فراغ آخر أكثر خطورة، وهو الفراغ في موقع قائد الجيش، والتحدّي الأكبر هو تعيين قائد جديد، خلفاً للعماد جوزف عون

وبالتأكيد، ليست هناك فرصة لانتخاب رئيس للجمهورية قريباً، لأنّ الاهتمام بهذا المِلف تراجع داخلياً وخارجياً، بعدما أُنْهك الفرنسيون من التفاوض على جبهات متعددة بلا نتيجة، والنتائج مع المملكة العربية السعودية ليست مضموناً وملائمة لتسريع التسوية في لبنان. فإذا استمر الفراغ أو الشغور الرئاسي، سيكون هناك فراغ آخر أكثر خطورة، وهو الفراغ في موقع قائد الجيش، والتحدّي الأكبر هو تعيين قائد جديد، خلفاً للعماد جوزف عون. وليس مضموناً أن تكون تلك العملية أسهل من عملية ملء الفراغ في مصرف لبنان. وإذا حصل هذا الفراغ، مطلع سنة 2024، سيكون لبنان قد دخل بكل مؤسساته في وضعية الإرباك وعدم اليقين وفقدان الشرعية، فهو بلا رئيس للجمهورية، وبحكومة تصرّف أعمال، وبمجلس نيابي شبه مشلول، وبمصرف مركزي يبحث عن حاكم أصيل، وربما جيش يبحث عن قائد أصيل.. واليوم، انهار الوضع المالي والنقدي تماماً، ولم يبقَ للبنانيين سوى ضمان الأمن، فإذا تزعزع هذا الضمان ستسقط آخر دعائم الاستقرار التي ترتكز إليها الدولة، ولو أنّها موجودة شكلا.

هذا يعني أنّ لبنان، في ظلّ عدم القدرة على انتخاب رئيس للجمهورية، سيدخل نفقاً أشدّ خطراً في الأشهر المقبلة، وقد يشهد نوعاً جديداً من تفكّك الدولة، تستدعي جهوداً خاصة ومضاعفة لإعادة تركيبها، وعملية إعادة التركيب لن تتم_ من دون إدخال تعديلات على قواعد اللُّعبة_ أي من دون دخول اللبنانيين والقوى الخارجية في مفاوضات أو مساومات، يتوافقون في نهايتها على صيغة جديدة وإحداث انقلاب في قواعد الحكم القديمة لممارسة السلطة وتقاسمها بين القوى السياسية والطوائف. فالتسويات التاريخية تكون عادة نتاج موازين القوى السائدة في لحظة معينة، أي إنّ الانقلاب الحاصل اليوم على الأرض سينعكس انقلاباً داخل الدولة.