icon
التغطية الحية

سفاهة النعمان وبلاغة سعد

2023.08.28 | 23:18 دمشق

آخر تحديث: 28.08.2023 | 23:18 دمشق

حيرة
+A
حجم الخط
-A

الغريزة والفطرة والقوة والضعف أمور لا علاقة لوجودها بالعلم أو المعرفة، ذلك لأنها معطيات مسبقة يحوزها الإنسان والحيوان على حد سواء، غير أن حيازتها المسبقة بالنسبة للإنسان، لا تعني عدم إمكانية تدريبها وتطويرها، وإبرازها أو تمويهها، وتحديد أوقات وظروف استخدامها في اتجاه ما أو نقيضه. وإذا كان ذلك مهماً لدى جميع البشر، فإنه أكثر أهمية لدى الملوك والأمراء والطغاة منهم على نحو خاص، ولهذا فإنهم يتخذون لأنفسهم مستشارين وقادة عسكريين وقوّادين وعلماء دين ودنيا. وبالطبع هناك دائماً مستشارون يتقاضون أجراً مباشراً، ومستشارون متطوعون يتبرعون بنصائحهم لاتفاق أهدافهم مع الحاكم، أو على أمل بلوغ ما يريدون من دون أن يطلبوه.

أبرز المستشارين المتطوعين وأكثرهم شهرة في التاريخ هو الفيلسوف والسياسي الإيطالي مكيافيلي الذي أهدى كتابه "الأمير" إلى حاكم دوقية أوربينو- فلورنسا الإيطالية عام 1513، وذلك على أمل أن يُعاد مكيافيلي إلى منصبه السابق كأمين للجمهورية. ومنذ ذلك الحين أصبح كتاب "الأمير" جزءاً أساسياً في جميع دراسات علم السياسة في عصر النهضة.

قبل مكيافيلي بقرون عديدة، كان في العالم وفي منطقتنا ملوك وأمراء حكموا لعقود، ثم ورّثوا الحكم لأبنائهم وأحفادهم من دون أن يقرؤوا شيئاً من قبيل كتاب الأمير وفصوله، التي تتحدث عن أفضل الطرق لحفظ العرش، وضبط الأمن، وترويض العامة، وهل الأفضل أن يكون الحاكم مرهوباً أم محبوباً، وطُرُق حفظ الولاء ومعايير اختيار الوزراء، وأن الأهمّ في جميع الأمور هو النظر للغاية وليس للوسيلة إلخ.

هناك آراء ووجهات نظر تعتقد أن مكيافيلي اطلع على مقدمة ابن خلدون وكتاب كليلة ودمنة لابن المقفع، وأنه تأثر بهما أو استفاد منهما في كتابه، وليس من شأن مقالتي أن تدلي بدلوها في نفي أو تأكيد تلك الآراء التي ترى أننا الأصل دائماً، ذلك لأن ما أبتغيه يذهب إلى جذور أبعد أو أعمق، تشقُّ وتشتقّ وتحدِّد أساليبها ومذاهبها وتجلياتها ليس بالفكرة أو القلم كما فعل مكيافيلي، بل بالصوت والسوط واللطم والسحل والسيف، وبالخبرة والتجربة والإرث المؤصَّل والمتَّصِل من التمكينات الأولى للمجتمعات إلى الممكنات المفتوحة على فنائها.  

مكيافيلي كتب في علم السياسة، في حين أن طغاتنا أقرب إلى المجرمين والمعقَّدين ومجانين العظمة منهم إلى رجال الحكم والدولة والسياسة

يُحكى أن ملك الحيرة النعمان بن المنذر كان يحسد سعداً بن مالك الكِناني لذرابة لسانه، ويحس بالنقص أمام بلاغته، ولهذا نوى أن يهينه ويزدريه، فإن ابتلع الإهانة رضي الملك، وإن استُفِزُّ وأساء الردّ أو ارتكب هفوة أوقَع به.  

وهكذا جاء يوم وفدَ فيه سعد على النعمان، فسأله النعمان عن طبيعة الأرض التي ينزل بها قومه، فقال سعد‏: ‏أمّا مَطرها فغَزير، وأمّا نَبْتها فكثير، فقال له النعمان‏:‏ وأبيك إنك لَقَوَّال ومفوَّه، فإن شئت أتيتك بما تَعْيا عن جوابه، فقال‏ سعد:‏ نعم. فأمر النعمان وَصيفاً له أن يَلْطِمَ سعداً، فلطَمه.

قال النعمان‏:‏ ما جواب هذه‏؟‏

فقال سعد‏:‏ سَفِيه مأمور.

قال النعمان للوصيف‏:‏ الْطِمْه أخرى، فلطمه.

قال‏:‏ ما جوابُ هذه‏؟‏

قال‏:‏ لو أُخِذ بالأولى لم يعد للأخرى.

كان النعمان يريد أن يتعدَّى سعدٌ في المنطق فيقتله، ولهذا أمرَ الوصيفَ أن يلطمه ثالثة، فلطمه.  

قال‏ النعمان:‏ ما جواب هذه‏؟‏

قال سعد‏:‏ رَبٌّ يؤدِّب عبده.

لم يشتفِ النعمان بهذا الحد من بلاغة استسلام سعد، فقال للوصيف أن يلْطِمْه أخرى، فلطمه.

قال‏:‏ وما جواب هذه‏؟‏

قال سعد‏:‏ مَلَكْتَ فأسْجِحْ، أي تَكرَّمْ وارفِقْ وأحسن العفو.

قال النعمان‏:‏ أصَبْتَ فامكُثْ عندي.

وهكذا فقد انتصرت سفاهة أو فهاهة أو تفاهة أو بلاهة النعمان وحمقه على بلاغة سعد.

القصة السابقة، بغض النظر عما إذا كانت خيالاً أم حقيقة أم حكاية رُوِيَت قبل قرابة ألف وخمسمئة عام، فإنها تعطي مثالاً صارخاً عن فظاعة "علم" السياسة وأصول الحكم لدى ملوك وأمراء لا يفهمون السيادة إلا بوصفها انتقاصاً من الأخرين أو تحويلهم إلى خصوم أو عبيد.  

مكيافيلي بأسوأ أفكاره يبقى أقل سوءاً بكثير قياساً إلى ممارسات طغاتنا ماضياً وحاضراً، وآمل أن لا يكون في هذه المقارنة أي مديح للرجل.

ولكن الواقع يقول ان مكيافيلي كتب في علم السياسة، في حين أن طغاتنا أقرب إلى المجرمين والمعقَّدين ومجانين العظمة منهم إلى رجال الحكم والدولة والسياسة، ولهذا فإنهم غالباً ما يعتمدون على الأكثر ولاءً مهما كان أقل ذكاءً، وعلى أجهزة لديها الكثير من فائض القمع، أو القمع "غير المرَشَّد"، كاستخدام  الطيران الحربي وصواريخ السكود والدبابات في مواجهة الغزلان والطيور، أو كاستخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين بدلاً من الرصاص المطاطي، والقنابل المسمارية بدلاً من خراطيم المياه.

واحدة من ذرى مأساتنا اليوم أن معظم حكامنا ليس لديهم مستشارون من أمثال مكيافيلي على بؤس أفكاره وانحطاط أخلاقه وقيمه.